يا سادتي،

هلا سمحتم لي أن أحدثكم عنهما و لو قليلا ؟ رجاء...من فضلكم...لا تظنوا أني مبالغ في حديثي عنهما. لا شك في أن المحب لمن يحب مطيع، فهب على ذلك أني على هجرانهما لا أستطيع.

نعم هذا من حقكم، فقد لا ترونهما جميلتين من الجميلات لكنني أراهما كذلك، و قد لا تكونان بالنسبة لكم نجمتين من أشهر المشاهير إلا أنني متيم بعشقهما رغم ذلك.

بالرغم من كثرة منتقديهما و حتى مع نذرة ممتدحيهما، غير أنهما استولتا على سلطة فؤادي من دون أدنى مقاومة، و تربعتا على عرش قلبي من دون أي منازع.

أتظنونني قادرا على نسيانهما بتلك السهولة؟ أم تراكم تحسبونني ناكرا للجميل حتى تظنوا بي هذا الظن؟ علما أن بعض الظن إثم.

هل تعلمون أني لهما تابع كالكويكب أطوف حولهما و أسبح في فلكهما و لا غنى لي عنهما، و هما لي كالشمس إن ابتعدت عنهما غرقت في الظلام و الصقيع، و إن اقتربت منهما احترقت عشقا و ولعا؟

كيف لي أن لا أتشبت بأسوار حبهما؟ بل كيف لي أن أبحث عن وطن في غير أحضانهما؟ إن إحداهما هي أول من بحنانها استقبلتني، و أخراهما هي آخر من بغزارة دموعها ودعتني.

وددت إخباركم أني بين زقاق الأولى خطوت أولى الخطى في حياتي، و وسط حقولها الخضراء شرعت في أحلى جولاتي. بين فصول مدارسها خططت على أولى كراساتي، و على ضفاف نهرها اصطدت أول سمكاتي...

نعم يا سادتي...إنها بكل فخر مدينتي، مهد طفولتي و نقطة انطلاقتي.

كما رغبت في إخباركم أنه في كنف الثانية تفتحت وردة شبابي و صقلت مهاراتي، و في رحاب جامعتها واصلت دراساتي، و بين مدرجاتها و قاعاتها حصلت على أعلى شهاداتي. بها ابتدأت مسيرتي و فيها حصلت على أول وظيفتي. مع ناسها نسجت أجود و أصدق علاقاتي، في ترابها دفنت أبتي و من خلالها أحببت و تزوجت شريكة حياتي...

نعم يا سادتي...إنها بكل فخر مدينتي، ينبوع سعادتي و مبعث فخري و مصدر كرامتي.

عندما غادرت أولاهما مجبرا و العبرات تسيل أنهارا من مقلتي، ضمتني كما تضم الأم المكلومة ابنها المغادر، ثم وجهت موجوعة كلامها إلى متبنيتي :

" عزيزتي و غريمتي !

أسلمك اليوم أحد أبر أبنائي، و لولا أنه أرغم على فراقي و اضطر لمغادرتي لما تركته قط لك.

إسمي مدون بجميع أوراق هويته فلا تظني أنه يوما ناسيني، و بذرته لم تنبت إلا في تربتي أي أن جذوره لا تزال مغروسة في أعماقي، فإياك ثم إياك أن لا تعتني بفلذة كبدي."

أثرت فيها كلماتها إلى درجة أنها جثت على ركبتيها و كأنها أصابتها في مقتل. ذرفت دمعا غزيرا لم يكن إلا ليدل على طيبة طينتها و أصالة معدنها. سرعان ما ربطت جأشها، و استدركت محاولة أن تبعث الطمأنينة في قلب مخاطبتها، فردت عليها بكل حزم قائلة: 

" عزيزتي و غريمتي !

هل تعلمين أنك تحملينني ما لا أطيق؟ كيف لي أن أتحمل مثل هذه الأمانة الثقيلة؟ و لماذا أنا بالضبط من ينبغي لها أن تواصل ما شرعت فيه؟

فلتكوني موقنة أنني سأعتني بابنك كأنه واحد من أبنائي. أوفر له التعليم المناسب و الآفاق الواسعة، أطور شخصيته و أساعده على تحقيق أحلامه.

فنكون بذلك مساهمتين في تربيته و شريكتين في نجاحه."

لا يخفى عليكم أن حنان أم واحدة لكفيل بالاعتناء بجميع أطفال العالم، فما بالكم بمن أكرمه الله بوالدتين مثلي؟

إني لأعتبر نفسي محظوظا بحق. ذلك لأني رزقت بمدينة ولدت بها و ترعرعت فيها و شربت من مائها، و بهذا فإن ما أخذته من خصال أهلها ليس باليسير. 

و محظوظ أيضا لأني وهبت حاضرة أخرى نضجت فيها ونجحت في رحابها و شربت من مائها، فاستعرت من أخلاق أهلها الكثير.

حق لكم الآن أن تتساءلوا عن هويتهما و صار لزاما علي أن أرفع الستار عنهما. إن أنتم سألتموني عن إسمهما، فالأولى عقد ثمين مصنوع من خمسة أحجار كريمة، و أما الثانية فباقة جميلة زكية الرائحة و بهية الألوان، مكونة من أربع وردات نادرة الوجود.

إن أول قطعة من إسمها المنقوش في قلبي حرف "الباء"، فكان ميلادي فيها بركة على كل مرحلة في حياتي. و ثاني أحجاره الكريمة المرصوصة فوق فؤادي حرف "الراء"، فكان حبي لها رزقا مباركا.

أما ثالث قطعة من عقدها فليست سوى حرف "الكاف"، و كأنها كانت و لا تزال كافية لي من دون سواها.

ثم رابع قطعه النفيسة ما هو إلا حرف "الألف" كناية عن حسن الألفة التي تجمعني و إياها.

أما ختام أحجاره المرصعة فهو حرف "النون"، فكان مسك الختام نقاء علاقتنا...

نعم يا سادتي... إنها "بركان" : تلك مدينتي، ملهمتي حتى خططت هذه الحروف على مذكرتي.

أول وردة في باقتها المغروسة في حديقة قلبي حرف "الواو" فكانت و لا تزال همزة وصلي مع منهم سواها. ثاني ورودها العطرة حرف " الجيم" لأنها جميلة بكل تأكيد. أما ثالثها فليس سوى حرف " الدال" كناية عن دلالها على الأخريات. أما آخر وردة نادرة من باقتها البهية فهي حرف" التاء" دليلا على تميزها و تألقها.

نعم يا سادتي...إنها " وجدة" : تلك مدينتي، محبوبتي التي لن أنساها إلى آخر يوم في حياتي.

الدكتور الزروالي محمد جمال الدين