معنى ودرجة الثقافة تختلف من شخص لآخر. حسب رأيك وتجربتك، ما هي الأخطاء أو العثرات التي قد يقع بها المثقفون عموما؟
ما هي الأخطاء أو العثرات التي يقع بها المثقفون عند النقاش؟
لقد قمت بمخالطة مثقفين من جيلي ومن أجيال أكبر، ما لاحظته هو أن القراءة وتحصيل المعرفة لا يغنيان عن تزكية النفس, ففي الكثير من الأحيان بل معظمها يكون المثقفون غير مؤهلين نفسيا لحمل مسئوليتهم كناقلين للمعرفة، فالكثير منهم متحيز بسبب عقد طفولة أو صدمات شخصية، الكثير منهم متحزب لحزب سياسي أو توجه إيديولوجي بسبب مصالح شخصية.
إن السمات الإنسانية للمثقف عندي مهمة بنفس مقدار علمه، فكثيراً من يوجد مثقف غير صادق مع نفسه، لا يحمل شفافية واستبصار نفسي وذاتي، أو يكون غير أخلاقيا أو يبحث عن الشهرة بنشر التصريحات المثيرة للجدل، أو يروج لرأي بسبب حصوله على تمويل من هنا أو هناك أو دعم حكومة أو دولة ما, وفي الكثير من الأحيان تعميه الشهرة أو الغرور أو الإيجو الشخصي.
أحيانا ما يصر المثقف على رأيه بسبب غروره الشخصي وعدم رغبته في الاعتراف بالخطأ بالرغم من تواتر الأدلة التي تشير إلى عدم صواب مقولاته.
لذا اكتشفت أن الوعي يقوم على جناحين، يطير بهما، القراءة والمعرفة هي الجناح الأول، وهو ما يقوم به معظم المثقفين، والعلاج النفسي والاستبصار الذاتي والصدق مع النفس وتزكيتها هي الجناح الثاني، وهو ما لا يمارسه الكثير من المثقفين الذين لا يعون لاسقاطاتهم وعقدهم الشخصية بسبب عدم اطلاعهم على علم النفس.
أيضاً على المثقف أن يواجه مغالطاته المعرفية والمنطقية، عن طريق تدريب عقله على التفكير المنطقي الرصين والاستناد إلى الأدلة وعدم الكبر من الاعتراف بالخطأ. حتى لا تتحول النقاشات لمعارك إيجو يتراشق فيها الأطراف على من سوف يفوز, بدلاً من أن تكون النقاشات بحثاً على الحقيقة.
السمات الشخصية للمثقف مثل التواضع والصدق والشجاعة للاعتراف بالخطأ، هي مهمة بقدر المعرفة التي عنده بالنسبة إلي، ولا يشرفني الإطلاع على أدبيات وكتابات مثقف متكبر أو مغرور أو كاذب أو غير أخلاقي في حياته الشخصية.
هي نفس الطرح الذي تناولته في أزمة إلغاء الآخر:
خاصة نحن العرب، سقطنا في دائرة الاستعلاء، والعديد من المثقفين والدارسين يكرهون الاستشهاد بشخص يفوقهم علما، ويتم للأسف تضمين الآراء الشخصية وكما ذكرت العقد النفسية والطفولية..
ذلك التجاهل والإلغاء يؤثر على المستوى العام الثقافي، حتى في المناظرات ونقاشات يصبح الأمر إثبات رأي أكثر من التوصل لحل وفكرة نيرة..
الإشكال: ما السبب؟ الغيرة؟ أم التكبر؟
لا يوجد شيء اسمه "مثقف" بقاموسي لأن هذا لفظ ليس له معيار, فمن هو المثقف؟ لذا سأحكم على أي مثقف تماما كما أحكم على أي إنسان آخر, إن هو أبدى رأيا أو نقاشا في موضوع ما.
ما ألحظه في جل البشر هو التسرع بإبداء آرائهم دون تقصي للحقائق والحد الأدنى من البحث حول الموضوع خصوصا عندما يكون الموضوع بعيدا عن إلمامهم, ولا مشكلة هنا في أن يخطئ الإنسان, فلا يمكننا أن نكون على صواب طول الوقت كلنا نخطئ ربما أكثر مما نصيب, ولكن ما أعيبه هو عدم بدل أي مجهود يذكر في البحث والتسرع بإعطاء أحكام ونتائج مبنية على معلومات غير صحيحة, إذ يعتمد "المثقف" على ثقافته التي اكتسبها بشكل عام لمناقشة أي موضوع كان, مع قليل من التنميق الكلامي, فكثير من الذين يحبون أن يطلقوا على أنفسه مثقفين, هم في واقع الأمر لا يجيدون إلا تنميق الكلام ولهم قدرات لغوية ممتازة وفصاحة, مما يوحي للقارئ أنهم على إطلاع جيد بالموضوع.
الثقافة مرتبطة بالمعرفة. منها الاكاديمي (بروفيسور) ومنها المهني (استشاري) ومنها الثقافة العامة (التجربة، البحث والاطلاع الذاتي). عندما نقول ان جواد لديه معرفة في مجال علم النفس، يكتب عنه ويبحث عن نظرياته وتطبيقاتها، اذن جواد شخص مثقف بالمجال الذي كتب وناقش عنه. أي لديه من المعرفة اكثر من الشخص المشغول بمتطلبات الحياة من الاكل والشرب وليس لديه الوقت او الاهتمام بالتعرف على مجال علم النفس.
التسرع بإبداء آرائهم. متعلق بطريقة تفكير تلقائية Intuitive thinking تعتمد على تفسير المعلومات بشكل سريع تلقائي والوصول لاول نتيجة او قرار. هذا يعتمد على الحدس الذي اشرت له في مقالتك السابقة. عندما يكون الحدس ناتج عن خبرة فهو مهارة. وخلاف ذلك يؤدي الى الوقوع في اخطاء التفكير التلقائي مثل اخطاء التحيز المعرفي Cognitive bias, والمغالطات المنطقية Logical Falacies.
عدم تقصي للحقائق. البحث عن المعلومات والحقائق المتوفرة ضروري جدا. النضج المعرفي يساعد على تعزيز هذا الجانب فينا. اضيف الى ذلك انه هنالك كم كبير من الاخطاء الناتجة عن تلك الحقائق التي قد يتم الاعتماد عليها بشكل خاطى. وذلك لعدة اسباب منها امور متعلقة ب: مصدر المعلومة، طريقة الحصول عليها، تفسير النتائج وتعميم الخلاصة على الشريحة الاكبر.
يقول «أرسطو»: "إن علامة العقل المثقف هي قدرته على الاستمتاع بفكرة دون تقبلها"، ولكن للأسف الشديد هذا ما يفتقده معظم المثقفين في الوقت الحالي. فعادةً ما تكون المنافسة متنكرة في زي الحوارات والنقاشات؛ فكثيرًا ما أجد أن بعض المثقفين دائمًا يكونون في رحلة بحث عن تحويل أي نقاش عادي لمناظرة يكون هدفها اظهار مدى (تألقهم) ومعرفتهم، وفي بعض الأحيان، لا يتقبلون أبدًا فكرة أنهم قد يكونون على خطأ، ويحاولون إثبات صحة كلامهم بكل الطرق حتى لو كان فيها اهانة للأشخاص الذين يتحاورون معهم. وفي الحقيقة، أرى ان هؤلاء لا يكونون قد وصلوا لمستوى عالي من النضج الفكري الذي يجعلهم يستحقون لقب «مثقف» بعد.
وهناك من يحبون تصحيح الناس وتسليط الضوء على أخطائهم دائمًا، وأعلم أن عادة ما يكون هذا نابع عن نية حسنة، ولكن هذا التصرف أحيانًا يكون غير لائق في بعض النقاشات، خاصةً الودية منها.
وهناك من لا يمكن اسكاتهم أبدًا إذا تطرق النقاش لموضوع يثير اهتمامهم مما يزعج من يتحاور معهم، وللأسف، هذا ينطبق عليّ أنا شخصيًا بعض الشيء؛ ففي العادة، أنا أحب الاستماع أكثر من التحدث، ولكن لو كان الموضوع ضمن اهتماماتي الشديدة، فأنا أتحول لشخص أخر تمامًا.
وهناك نوع من المثقفين الذين يصلون إلى درجة كبيرة من السلبية والتفكير الذي قد يصل إلى حد السوداوية تجاه العالم والمجتمع، وتجدهم دومًا يأخذون النقاشات لمنعطف فلسفي ويشيرون إلى العيوب في كل شيء، وهذا النوع يذكرني بشخصية المحقق «راست كول» في مسلسل «True Detective»، والذي قام بتجسيدها العبرقيّ «ماثيو ماكونهي»، وسيفهمني أكثر كل من شاهد المسلسل.
وأيضًا كنقطة أخيرة، عادة ما يفكر المثقفون في كل شيء حولهم زيادة عن اللزوم، وأحيانًا هذا يجعلهم يصلون إلى استنتاجات خاطئة قد تسبب مشاكل في علاقاتهم مع من حولهم.
اعرف اشخاصا يقرؤون كتب ليست ضمن اهتماماتهم فقط من اجل التعرف على منظور جديد لا يألفونه.
في الواقع، احد اشهر الفلاسفة الالمان، Georg Hegel يدعو الى التعلم من الافكار التي لا نحبها. ان نحاول ان نقف على نفس المنظور الذي يرانا منه من يخالفنا في الرأي. بعيدا عن استيعاب الآخر، معرفة اسباب الاختلاف تضيف الى كلا الطرفين.
بعض الناس لديهم شعور بالاستعلاء يمنعهم من الاعتراف بالخطأ، ولكن بالنسبة لي الخطأ الأكبر الذي يقع به المثقفون هو وهم الثقافة نفسها، فما هو المعيار الذي يمكننا أن نقول بناء عليه أن هذا الشخص مثقف، هل هو كثرة الكتب مثلا، وما الذي يضمن أن الكتب التي قرأتها ليست إلا مجرد حماقات.
هناك من يضع نفسه في عداد المثقفين ويبدأ بنشر أفكاره لمجرد أنه قرأ روايتين أو ثلاثة، لذلك السؤال المهم من وجهة نظري ليس عن خطأ المثقف، بل من هو المثقف أصلا؟
التعليقات