لطالما كان الإبداع محطّ اهتمام منذ القدم، ونخصّ بذلك الإبداع الأدبي، الذي أصبح له سطوة كبرى لأنه يقوم بتحقيق واقع ثقافي وحضاري جديد.

اليوم، تُقرن المجتمعات في تطوّرها بمدى تحقيقها للابتكارية الفنية وتقديم أفكار جديدة. فهناك من يرى أن الإبداع الأدبي ما هو إلا لقاء بعقلٍ آخر، وأن كل إبداع ينسجه المبدع هو عبارة عن تلاقح مع ثقافات وإبداعات مؤلفين آخرين. وطبعًا، كانت استدلالاتهم مما يقوله الأدباء والنقّاد في كتبهم وحواراتهم. وعلى حدّ تعبيرهم: الإبداع هو نسخٌ للماضي، إذ لا يوجد فنان أو مبدع أو أديب له مفاهيم خاصة به.

فالإبداع، حسبهم، هو امتداد وتطوّر لتقاليد موجودة. فالكاتب ليس إلا قارئًا، متميّزًا وجيدًا، وإن إبداعاته وأفكاره ليست إلا خيوطًا ونسيجًا من الاقتباسات، مستعارة من آلاف المراجع المعرفية والثقافية التي سبقته، وأن كل الكتابات لها صداها في الماضي، والأقوال كثيرة تنادي بهذا.

وبناءً على ما تفضّل به هؤلاء، لا شكّ أن في كلامهم جانبًا كبيرًا من الوجاهة. ولكن، أيضًا، يجب ألا نغالي في هذا الطرح. لأنّه إنْ اعتقدنا أن الإبداع كله متوارث، أو كما يقول أحدهم: "ما النص إلا ذئب بداخله خراف نصوص مهضومة"...

في الحقيقة، الإنسان يعتاش على أشياء مضوية ولكن لكي يُثبت إنسانيته، عليه دائمًا أن يضيف لمسته الخاصة.

فالإبداع يتمركز في مثل هذه المواضيع، أي في اللمسات التي تنضاف إلى النصوص السابقة.

وإلّا، لكان النص الإبداعي نصًا واحدًا ممتدًا في الزمان والمكان، وهذا طبعًا يُعادي فكرة "الإنسانية المستمرة".

فنحن قد نسير على طريقة الأوائل، نستعمل لغتهم، ونستخدم الأساليب التي كانوا يستخدمونها، والقوالب الأجناسية التي ينسجون بها نصوصهم.

ولكن، ثمّة دائمًا الموهبة التي تصنع التميّز والفرادة، الموهبة الفارقة التي ينحى بها صاحبها منحًى آخر، يختلف عن المناحي التي تعاطى بها الذين سبقوه الكتابة.

ولذلك، نؤمن دائمًا بالموهبة الخارقة، التي تجدّد حتى اللغة.

مثلًا، نزار قباني.

نحن العرب نستعمل التشابيه، ولكن نُوجد قصيدة لنزار قباني يقول فيها:

"حزين أنا مثل طفل يقف أمام المرآة."

نحن لم نعتد مثل هذه الصور، ولكن حينما يُخبرنا ذات مرة أن أمه ذهبت إلى حفل، فوقف يبكي أمام المرآة، فهو يستحضر تلك اللحظة كما لو كانت النموذج الأعلى لفكرة الحزن، فيستعملها كتشبيه، فيرى بأن لا حزن كـذلك الحزن.

ولا يغرنّكم أولئك الذين يُستدلّ بهم على أنهم يؤيدون هذا الطرح، فالنظر الحصيف النقدي هو أن نستدلّ بهذه المقولات مجتمعة، ثم بعد ذلك نحاول نقدها.

النقد الحصيف هو أن تختلف مع الرؤى، حتى لو اجتمعت على قضية ما. يجب أن تجد فيها مَسربًا أو ثغرة تستطيع من خلالها أن تطرح تصورًا مغايرًا ومختلفًا.

فالعبرة في النقد ليست القدرة على جمع مقولات الآخرين وجمعهم على رأي واحد، وإنما فعل ذلك ثم بعثرة جمعهم، وإثبات أن هذا الاجتماع منهم متهافت ويمكن تسريب الشكل فيه.

لأن النقد، في جوهره، هو الأخذ بالرأي الذي يستفزّ الإجماع.

النقد حالة فردية، ولا ينبغي أن يكون حالة إجماعية إطلاقًا.

هكذا، فالإبداع لا يكون تكرارًا ولا تقليدًا، بل ارتجافًا خاصًا في سياق ممتدّ.

إنه خلخلة للمألوف، وصوتٌ لا يُشبه غيره، كما قال أدونيس:

> **"أجملُ ما تكونُ أن تُخلخلَ المدى،

والآخرون – بعضُهم يظنّك النّداء،

بعضُهم يظنّك الصّدى.

أجملُ ما تكونُ أن تكون حجّةً للنورِ والظّلام،

يكونُ فيك آخرُ الكلامِ أوّلَ الكلام،

والآخرون – بعضُهم يرى إليك زبدًا،

وبعضُهم يرى إليك خالقًا.

أجملُ ما تكون أن تكون هدفًا –

مفترقًا للصّمتِ والكلام."**