كيف أصارحك بأني لا أريد الكتابة عنك، بل الكتابة إليك؟ يا أيّها المُظَفّرُ بكل صراخ العرب، يا نائبًا عن حناجرنا المهزومة، أيها الواسعُ فيّ جدًا.. إنك عزائي الوحيد في رحيلك. فـ "الحزن جميلٌ جدًا، والليل عديم الطعم بدون همومْ." تماهيتُ وحزني، خلعت كل ما ألبس من ورقٍ لأرتدي حالة أثيرية من اللذة السرّية، وتخبأتُ خلف الـ "مو حزن، لكن حزين"، تعطّرتُ بشِعرِكَ فأخفيتُ نتانة اختلاط حُزني باللحظة الأبدية. هذا الحُزنّ الذي تهتُ باحثًا عن أسبابهِ فيهِ، ما وجدتُها إلا بخريطةٍ سرقتُها من لغتكَ دلتني على الطريق الذي سرتُ فيه وحزني مُشعلينَ "يا حزن ياريت اعرفك" قنديلًا. متجهين نحو بيته لنُبَلِّط الممشى بـ "كاشي الفرح".

 مظفر، أيّها الهمسُ المخترق. قمرٌ أنت في ليل عروبتنا، وشمسٌ لا يكسفها سجنٌ ولا رقيب. راقبتكُ تهرب من سجنكَ، تحفر بالمنجل والكلمات نفقًا إلى روحِ القصيدة، تحفر بأظافركَ طريقًا إلى خلاصٍ مؤقت، راقبتك وأنت تنظف أظافرك من طين الوطن المُلوَّثِ، فيعزُّ عليك أن ترميه على الأرض، لتُحيل حتى هذه اللوثةَ قصيدة. أتخيّلكَ أحيانًا في خندق حرب، أتخيلكَ تنظر للجثث الهامدة من حولك، وأمامك "أولاد قراد الخيل" يَحْبُونَ إلى معسكر العدو رافعين راياتٍ بيضاء ملطخةً بالعار. أتخيلك -ولفرط الملل- تخترع لعبةً عربية على غرار الروليت الروسي.. تُمسك مسدسك الشّعري، تصوبه نحو قلبك مرةً: "ما أوسخنا، لا استثني أحدًا" ثم تصوبه نحو جحافل الخونة الهاربين إلى أحضان الدول الكبرى "عربٌ عربٌ عربٌ جدًا أولاد الكلبِ". لقد كنت -أيها الفارس الأخير والمقاوم الأخير والمحارب الأخير- الشاعر العربي الأخير.

جلس الشاعر الفرنسي بلا حيلةٍ وهو يشاهدُ المسخرة التي آل إليها حين كانت الدول الكبرى تفسدُ حديقتَه. الدول الكبرى التي هرب منها متوحدًا إلى نهاية العالم من أجل تدبير معيشة بائسة. هكذا وصّف هنري ميلر هزليّة مصير آرثر رامبو. أمّا أنت فقد كنت الشاعر الذي خرّب زرائبَ الدولِ الكبرى. زرائبٌ بـ "قِمَمْ، ومِعزة على غَنَم". أنعام للدول الكبرى، أحالت أوطاننا زرائبًا كان لا بدّ من إفسادها. وبعد ذلك كلّه كان لا بدَّ لك -كشاعر وكعربي- أن تتوحد وتهرب لكل نهايات العالمِ من أجل تدبير قصيدة وربما حياة.