ذاتَ ليلةٍ باردةٍ مِن لَيالي الصَقيع، جَلسنَا أنا وصَديقٌ لي نتسَامَرُ عَلى ضَوء جِذوة مِن النّارِ اصْطَلَينَاهَا نلتَمِسُ فِيها دِفئاً وحَرَارة. تَرامَت أحاديثُنا حَتى تَجاذَبنا أطرَافَ حديثٍ عن مَاهِية المَشاعر الإنسَانية، وكيفِية شُعورنا بِها؟

فَكَانَ لُبُ حَدِيثه عَن كُرهه للمَشاعر السَلبية ومُحاولته الدَائمة لِلابتِعادِ عَنها قدر الإمكان، فَمَا الحَياة إلا سَاعَة مِن نَهار.

أَدهَشَني قَولُه واستَوحَشتُ كَلامَه وسَألتُه بِعَفويةٍ، هَلاّ وَضّحتَ مُرادَك، وأَبَنتَ حُجتَك؟

فَقَال أُحِبُ الفَرحَة وأُبعِضُ الكأبة، وأَستَأنِسُ بالأهَلِ وأَتَضَجَّرُ الوِحدَة، كَما أُحِبُ السَعَد وأَهلَه وأَكره الحُزنَ ونَاسَه. فِحَيَاتُنا فِي هَذِه الدُنيَا كَمَا بَينَ رَميَةِ سَهمٍ وهَدَفِه. ومَا نَحنُ بخَالدِينَ فِيها فَنَأمَنَ نَوائِبُ دَهرِها ومَصَائِبه ولا مُعَمِّرينَ فِيها فَتَطُولُ آمَالنُا. وطَالَمَا هِي مُشرَئِبة لِهلاكِنا، إِذ آثَرتُ كُلَ ما يُجَّمِلُها واسْتَنكَرتُ كُلَ ما يُعَكِر صَفوَ مَسِرَتِها.

فَأخَذتُ نَفَسَاً عَمِيقاً مِن سِيجَارَتي، ونَفَثتُ الدُخَانَ لأعلَى وأنا مُغمِضٌ عَينيّ، حَتَّى استَحَال الجَو ضَبَابَاً، فَنَظرتُ لَه هُنَيهةً بِعينٍ ثَاقِبةٍ لأُرَاقِبَ تَعابِيرَ وجهه الذَابِل. ثُمَ قُلتُ لَه: يَا صَدِيقِي، اُصْدُقنِي القَول، كَيفَ تَتَبينُ أَوقَاتَ سَعدِك وسُعُدُك فتَلزَمَها؟ وأَوقَاتَ تَعاسِتِك وشَقَائِكَ فتُفَارِقَها؟ فَطَعمُ السَعَادةِ مُحَرمٌ عَلى مَن لم يَتَجَرع مَرارَة الحُزنِ؟ وَهل يَشعُر بِنَسِيمِ الحُريةِ إلا مَن ضَاقَ صَدره بِظُلُماتِ السُجُونِ؟ وَهل حَمِدَ اللهَ حَامدٌ وهَو صَحيحُ، إلّا لِما أَلمَ به وهُو سَقِيم؟ كَيفَ يَشفِي الحُبُ الصَادِقُ قَلبَاً لم تَكوه آلاَمُ الهَجرِ وَتَعتَصِره آهَاتُ الفُراق؟ وكَيف تُرسَم البَسمَة عَلى ثَغرٍ لَم تَروِه دُمُوعَ وَجْده ولَحَظاتُ شَجَنِه؟ فَكم مِن نِعمِ اللهِ لا نُحصِيها إِلا عِند زَوالِها. وكَم مِن نِقَمٍ لا نَعُدُ لها عُدةٍ ولا نَحسِبُ لًها بَالاً إلَا بَعدَ وُقُوعِها.

ثُم استَطردتُ بِآخِر نَفَسٍ في سِيجَارَتي، ولَكنْ لم أنفُث دُخَانه كالمَرة السَابِقة، فَلم أُرِد أن يَغِيبَ وَجهه عَن نَاظِري، ثُم قُلتُ: خَلَقَ اللهُ أَدَمَ ثُمَ وَصَفَ الأَشيَاءَ كُلُها بأسمَاء، وجَعَل لِكِل صَفةً ضِداً، ثَم عَلَمَها أَدَم. فالأشياءُ صِفات، والصِفاتُ أضْدَاد. والشَيُء وضِده لا يَفتَرِقان. فَمَن تَمَتَع بِالصِفَة كَان حَقاً عليه أن يَتَجَرَّع الضْد. فَمَن تَمَتع بالصِحة، لَيَذُوقَنَّ المَرَض. ومَن ضَنَّ بالفَقرِ، لَيَنعَمَنَّ بِالغِنى. فَالأيَامُ دُول.

انتَهَيتُ مِن كَلامِي وسَادَ الصَمتُ، حِينِها كَان القَمَرُ بَدراً مُنِيراً فِي كَبِدِ السِماء، يُنِيرُ ظُلَمة اللَيلِ البَهِيم. حَدّقتُ بِيه فِي تَعَجُّبٍ، كَيفَ لهَكَذا قَمَرٍ أنْ يَقِفَ سَاطِعاً مُتَحدِياً هذَه الظُلمَة الحَالِكة المُمتَدة، صَامِداً فِي وَجه سَرمَدِها. يَهدِي مَن تُضِله، ويُرشِدُ من تَتَعثرُ قَدَمَاه، ويُقَاتِلُ كُل يَومٍ فِي سَبيِل الضُعَفاء. فَيَا لَيتَ لِكُلِ وَاحداً مِنا قَمَره، يُرشِدُه فِي غَيَاهِب لَيلِ هَذه الدُنيَا ويَدفَعُ عَنه بَأسَها. وإِذْ أنَا هَائِمٌ فِي خَلَجَات نِفسِي تُحدّثُني وأُحَدِّثُها، إذْ أفَقتُ عَلى حَسِيسِ جَذوة النَار تُصَارعُ البَقَاء وتَأبى الخُمُود، لأجِدَ صَدَيِقي يُتَمتِمُ بِبضعِ كَلِماتٍ كَأنه يَستَعُد لِجَولةٍ ثَانِية وأَخيرة مِن مُعتَرَكِ حَدِيثِنا هَذه اللَيلَة، يَكُونُ عَلَيها هَذا البَدرُ مِن الشَاهِدين. وَبَينَمَا أَنَا أنتَظِر صَدّ هُجُومِه، إذْ قَالَ بِمَا لم أَحسِب لَه حُسبَانَاً: صَدَقتْ. ثُمَ صَارَ يُحَدِّقُ فِي القَمِر بَدراً كَمَا كُنُتُ أَفَعلُ مُنذُ بُرهَة. هُنَا سَمِعتُ صِيحةً مَكتُومةً كَانَت لِوهَجِ النّار مُعلنَةً عَن خُمُودِه. وَلكِن مُخطِئ مَن ظَنَّ أنّ النّار قد خَمَدَت، إنّما هُو الوَهَج.

بقلم: أسامة إسماعيل عبد العليم