الفصل الأول:
كل زاوية تذكره بها: رائحة العطر، صوت الضحكة القصيرة، حتى صوت الأطباق عند تنظيفها.
فقدها جاء فجأة، كعاصفة تهب دون مقدمات، تاركًا قلبه مكسورًا وروحه في صراع دائم مع فراغ لا يمكن ملؤه.
كل يوم كان يقف أمام مرآة، يبحث عن أي أثر لها في وجهه، في صوته، في تصرفاته… لكنه لم يجد سوى ظلها المشتت في عينيه.
جلس ساعات في غرفته يحاول أن يفهم لماذا رحلت، لماذا لم تبقَ لتخفف عن قلبه الألم.
كل شيء حوله كان يصرخ بغيابها، حتى أصوات الحياة اليومية، التي كانت يومًا مألوفة، أصبحت الآن قاسية وغريبة.
تجول في المنزل كالشبح، يلمس الأشياء، يسمع صدى خطواته، وكل شيء يعيده إلى لحظة فقدها.
حاول الأصدقاء، حاول المدرسة، حاول أن ينسى… لكن الألم كان أكبر من كل محاولاته.
حتى الطعام لم يكن له طعم، وحتى النوم أصبح مستحيلًا، كأن الليل يرفض أن يمنحه هدوءًا ولو لحظة.
وتعلم درسًا مبكرًا: أن الفراغ يمكن أن يكون أصعب من الموت نفسه، وأن الخسارة الأولى لا تُشفى أبدًا.
الفصل الثاني:
مرت السنوات، وحاول أن يتنفس بين أنقاض حزنه، لكنه لم يكن يعلم أن الحياة تحتفظ له بفصل آخر من الألم.
بدأ الأب يضعف، تدهورت صحته تدريجيًا، وكل نفس كان يسحب منه جزءًا من قوته.
جلس بجانبه في الليل، يسمع أنفاسه تتسارع أحيانًا وتتوقف أحيانًا، وكان قلبه يصرخ داخليًا: "لا، لا يمكن أن أفقده أيضًا".
في جنازة والده، وقف بين الحشود، لكن كل الوجوه تبدو بعيدة، كل همس لا يصل، وكل ابتسامة تبدو زائفة.
جلس في غرفته بعد الجنازة، ينظر إلى صور والدته ووالده، وكأنهما ينظران إليه من عالم آخر.
البيت صامت، الجدران تحمل صدى الماضي فقط، والهواء الثقيل يضغط على صدره بلا رحمة.
تذكر أصوات ضحك والدته وطمأنينة والده… وتساءل كيف يمكن للحياة أن تصبح بلا أي دفء.
حتى الكلمات التي حاول أن يقولها لهم في ذهنه اختنقت، وكل محاولة للتواصل كانت مجرد صدى باهت.
جلس على الأرض، ظهوره مائل على الحائط، والبرد يتغلغل في عظامه، والدموع تتساقط بلا صوت.
تذكر طفولته، شعور الأمان بين أحضانهم، وكيف أصبح الآن مجرد ذكرى بعيدة.
حاول أن يملأ الفراغ بالقراءة والكتابة، ولكن كل كلمة كانت تنهار قبل أن تصل إلى قلبه.
الموسيقى صارت بلا طعم، كل نغمة تهرب منه، وكل صوت يبدو وكأنه يتهرب من قلبه المكسور.
جلس ساعات ينظر إلى السقف، يحاول العدّ بين الخشب والفواصل، أي شيء ليشغل عقله عن الفراغ.
حتى النوم أصبح صعبًا، كل مرة يغلق عينيه، يرى وجوههم تتلاشى ببطء، كأنها تتبخر في الهواء.
المكان أصبح مجرد قفص من الذكريات، والذكريات أصبحت أقوى من أي شيء آخر… أقوى من أي أمل.
فكر في الرحيل، في ترك هذا الصمت، في الهروب من كل شيء… لكنه لم يستطع، لأنه حتى الفكرة كانت تؤلمه.
كل شيء بدا وهميًا، والواقع صار أقسى من أي حلم كابوسي.
جلس في زاوية الغرفة، ضم ركبتيه إلى صدره، وشعر بأن العالم كله قد انهار، وأنه بلا سند، بلا حماية.
ظل جالسًا طوال الليل، مع صمت لا ينتهي، مع فراغ لا يمكن ملؤه، مع شعور بأن الحياة أصبحت مجرد صدى لمن رحلوا.
في ذلك الظلام، أدرك درسًا وحيدًا: الذكريات المؤلمة هي كل ما تبقى، وكل ما يمكن أن يربطه بمن أحب… حتى لو كانت تجرحه أكثر.
مع بزوغ الفجر، لم يتغير شيء… سوى أنه أصبح يعرف أن حياته من الآن فصاعدًا، ستكون عيشًا مع فراغ، مع صمت، مع ظل من فقدهم إلى الأبد.
التعليقات