الفصل الثالث: بين جدران الوحدة
بعد رحيلها، تغير كل شيء. لم يعد للوقت معنى، ولم تعد الأماكن تحمل سوى ظلالها الباهتة. كان سامر يتجول في شقته كالغريب، كأنها لم تكن يومًا منزله، بل مجرد مساحة فارغة تضج بذكرياتها.
كل شيء يذكره بها: فنجان القهوة الذي لم يشرب منه أحد منذ أن أعدته آخر مرة، الكتب التي كانت تقرأها بتمعن وتركت بينها ملاحظاتها الصغيرة، حتى العطر الذي كانت تضعه ما زال عالقًا في زوايا الغرفة، وكأنه يرفض أن يغادر كما غادرت هي.
في البداية، حاول أن يقاوم الغرق في الحزن. أقنع نفسه بأن الحياة يجب أن تستمر، بأن العمل سيشغله، بأن الأصدقاء سيخففون من ثقل خسارته، لكن الحقيقة كانت مختلفة. كان الجميع يظن أنه تجاوز الأمر، لكنه كان يعيش في صمت، يعيد شريط الذكريات في عقله مرارًا وتكرارًا، يبحث عن لحظة واحدة يمكن أن تعيده إليها، ولو للحظة.
في الليالي الطويلة، كان يجلس قرب النافذة، يراقب الشارع المظلم، منتظرًا شيئًا لا يعرفه. أحيانًا، كان يهمس باسمها في الفراغ، كأنه يأمل أن يجيبه صدى صوتها. لكنه كان يعلم أن الموت لا يرد.
لم يكن حزنًا عاديًا، بل كان كأنه فقد جزءًا من نفسه، جزءًا لن يعود أبدًا. والأسوأ، أن الشعور بالذنب كان يطارده. لماذا لم يمنعها من الذهاب في ذلك اليوم؟ لماذا لم يكن هناك ليحميها؟
لم يكن يعلم أن الماضي لا يترك أحدًا، وأنه مهما حاول الهرب، فإن الألم سيظل يلاحقه… حتى اللحظة التي قرر فيها مواجهة الحقيقة.
~_مروان هاني_~
الفصل الرابع: طيف في العاصفة
كان المطر يهطل بغزارة تلك الليلة، يضرب زجاج النافذة بقسوة كأنما يحاول اقتحام وحدته. جلس سامر على الأريكة البالية، يحدق في الفراغ، بينما أنامله تعبث بورقة الرسالة المجهولة التي أوصلته إلى هذا المكان. كان عقله مزدحمًا بالأفكار، لكن قلبه لم يكن يفكر… بل كان يشعر.
مر عامان منذ فقدها، عامان من العيش في ظلال الذكريات، من محاولات النسيان التي لم تزده إلا تعلقًا بها. كان يعتقد أنه بدأ يتجاوز الأمر، حتى وجد نفسه هنا، في المكان الذي أعاده إلى نقطة البداية. المكان الذي اختفى فيه والده، والذي عاد إليه الآن بحثًا عن إجابات… لكنه لم يكن مستعدًا للسؤال الحقيقي الذي يطارده: هل الماضي يلاحقه، أم أنه هو من يطارده؟
نهض فجأة، كأنما تحركه قوة خفية، وسار نحو الطاولة حيث كان يحتفظ بأشيائها القديمة. فتح الصندوق الخشبي الذي لم يلمسه منذ شهور، وراح يتفحص محتوياته ببطء. كانت هناك رسائلها، عقدها الفضي الذي نسيته ذات يوم، وتلك الصورة التي التقطاها معًا في أحد أيام الشتاء، حيث كانت تبتسم له وكأنها لا تخشى شيئًا في العالم.
لكن شيئًا ما تغير في نظرته الآن. للمرة الأولى، رأى في عينيه انعكاسًا لم يفهمه. لم يكن مجرد حزن… بل كان سؤالًا.
أخذ الصورة بيدين مرتجفتين، وتأملها جيدًا. كان هناك شيء لم يلاحظه من قبل، خلفهما مباشرة، في زجاج النافذة التي انعكست في الصورة…
ظل.
شخص ما كان هناك، يراقبهما يومها.
شعر بقشعريرة باردة تسري في جسده. كان هذا اليوم قبل وفاتها بأيام قليلة. فهل كان موتها مجرد صدفة… أم أن هناك من كان يراقبهما منذ البداية؟
~_مروان هاني_~