اللغة والذات

وجود الإنسان بين لغته وعمله وفكره

أنت لُغَتُك

لغتُك ذاتُك وشخصيتُك

وهل أنتَ الا لغةٌ، فصورتك في أذهاننا أنت رسمتها وثبتها في عقولنا من خلال لسانك، نعرفك من لفظك، وتُوجِدُ نفسَك في عالمِك من خلال لغتك، فإنما أنت أثر لسانك.

فاللغة هي الركن الأساسي في كينونة الانسان وتمييزه عن غيره، وهي مظهر الانسان الأبرز وصورته الأهم لدى الناس، فإذا كان الانسان جميلاً في شكله وكانت لغته ضعيفة فإنها ستشوه ذلك الجمال ولا تبقي له وجوداً، ولو وجدت حسناء ولكنها لا تحسن الكلام فإنها بلا شك ستفقد كثيراً من أثر حسنها، بل سيؤول حسنُها إلى جمال بارد ميت لا حياة فيه، ولو كان إنسانًا لا يملك من صفات الحسن شيئًا في وجهه وكان لفظه جميلًا ومنطقه قويمًا لَنَسَخَ جمالُ لغتِه دمامةَ منظرِهِ وأحالتْه صورةً جميلة في أذهاننا. هل أدركتَ السحر الذي تمارسه اللغة في تلاعبها في صور الناس تحسينًا وتقبيحًا.

وإن اللغة نظامٌ، وهو الصفة الأبرز فيها، فلو لم يكن فيها نظام لتحولت أصواتًا لا قيمة لها غالبًا، ومهما تعددت اللغات وتنوعت ففيها شرط ثابت مشترك تولد به وتنمو معه وهو النظام، ومن هنا كان كل شيء له دلالة معينة يعدُّ علامة، والعلامة إذا كانت صوتًا فهي لغة، فكل صوت يفهم منه شيء آخر هو لغة، وهذا الترابط بين الشيء وما يدلّ عليه إنما جاء نتيجة انتظام التواجد بينهما فإذا وجد واحد فهم الآخر منه، وأنت تقود سيارتك في الليل في طريق ذي اتجاهين فإنك ستستمر بالقيادة على الجانب الأيمن، وإذا جاءت سيارة مقبلة من الأمام فإنك لن تشعر بقلق بأن السائق ربما يجيء من جانبك، بل أنت مطمئن وتقود سيارتك مسرعاً، هذا الأمان هو نتيجة النظام، فأنت وسائق السيارة المقابلة كان بينكم تفاهم من غير كلام، لقد كنتما متصلين من خلال نظام آخر ليس صوتيًا، بلا هذا النظام لما استطاع أحد القيادة لكثرة الحوادث بسبب الفوضى، وهكذا اللغة أيضًا بلا نظام ستكون فوضى صوتية. فكل نظام وتنظيم هو آلة اتصال وتواصل، الإشارات والرسم والعلامات والقوانين.

ومن هنا فإننا أسرى النظام اللغوي، محكوم علينا من خلال هذا النظام، فصورتك ترسم في أذهان الناس وشخصيتك تبنى عندهم من خلال لغتك، فهذا النظام هو ما يحدد ذاتك، أو هو الوسيلة لتحديد من تكون، بل مصيرك يتحدد من خلال حصاد لسانك.

مرضى منهزمون:

وإن من تراه متهللاً فرحاً بتعلم ابنه لغة أجنبية ولا يعطي الاهتمام ذاته للغته الأم لا شك أنك ستجده منهزماً في داخله فاقداً لأهم مكون لوجود الانسان وهو الاعتزاز والتمسك باللغة الأم، وإن قيل قديماً: من تعلم لغة قوم أمن مكرهم، ولكن لو كانت نيته التعالم والحداثة الشكلية فإنه بتعلمه لغتهم صار تابعاً لهم ذائباً فيهم، فلا يحق له أن يتمثلَ بهذا القول، إنهم مرضى منهزمون أمام غيرهم فقدوا الاعتزاز بأنفسهم وكينونتهم يغطون ذلك بدعوى الثقافة والتقدم.

اللغة والأثر النفسي للألفاظ:

اللغة لها أثر على النفس لذلك نهينا عن الجدال في الحج، والاعراض عن الشتم في الصوم، لانه يثير النفس مما لا يتوافق مع سكون الروح والنفس ساعات الصيام، والشخص الكيس والعاقل يعرض عن البذاءة في القول بل لا ينطق الا بالطيب منه ؛ ولذلك في الجنة (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً الا قيلا سلاما سلاما) فاللغو مزعج للنفس معكر للأجواء الطيبة

الكلمة رسالة للعقل ومحفز للنفس ومَصفٍ للروح، الكلمة فيها شفرة محركة لعوالم خفية، فلو قلت لنفسك إنك جميل سترى عيونك جمالك، ولو قلت إنك شجاع لو جدت جسارة في روحك لم تعهدها، والعكس يصح أيضًا، فلو قلت لا استطيع أن أفعل ذلك، فستجد نفسك قد وقعت أسير الكسل.

فحقيقتك لغة، ووجودك لغة، ومشاعرك لغة، ومحفزك لغة. ولك أن تكون كريمًا فتتصدق بكلمة؛ فاللغة تؤدي الصدقة: "الكلمة الطيبة صدقة".

تكلم حتى أعرفك:

لغتك تكشفك، كلماتك تحمل ذاتك، تحمل شفرتك الشخصية، إنها صورتك الحقيقة، الصورة التي لا تستطيع الفكاك عنها، مهما تزينت ومهما تجملت وحسنت صورتك في أعين الناس فإن لكلماتك سلطاناً عليك فهي تظهرك بمظهرك الحقيقي بعيدا عن الصورة التي ترغب أن يراك الناس بها.

لو كنت شخصاً ميالاً للفلسفة فإن جملتين منك تكشف ميلك وتأثرك بالفلسفة، ولو كنت مختصاً بالتاريخ فألفاظك لن تتأخر كثيراً حتى تبين تخصصك، وإذا كنت شخصاً قد أصابه الهوى فكن صامتاً أبداً وإلّا.

أنت والمصطلحات:

المصطلحات هي مختصرات للفكر والعلوم، ألفاظ تختزل المفاهيم بكل ما لها من علاقات وشروط وبيانات في كلمة واحدة، وكلما كثرت مصطلحاتك دل ذلك على سعة ثقافتك، لذلك كانت المصطلحات بضاعة لمن ابتغى أن يظهر نفسه بلباس الثقافة والمعرفة، فترى كثيراً يتعرضون للمصطلح في حديثهم كانت مناسبة أو لم تكن.

والمصطلحات سلاح ذو حدين، كن حذراً في استعماله، فكثيراً ممن يستعمله ويكثر منها إنما يبغي أن يزين كلامه بها حتى يخلع على نفسه صفة الثقافة وسعة الاطلاع، وحتى في هذه الجزئية فإن هذه الألفاظ تكشف خبيئة أنفسهم، فلغتهم المتزينة تكشف سوءتهم وتحيلهم عرايا من الأصالة، فاستعمال المصطلح لا يكون إلا من مليء بأبعاده وعمقه والاعتراضات التي وردت عليه ونشأته وظروفها ومكانه وزاويته الضيقة التي ظهر فيها، أما استعمال المصطلح جزافاً فهو جزاف.

العلوم والأعمال والفنون لغة:

افعل شيئا حتى أعرفك، اللغة هي التعبير عن الذات أنّى كان هذا التعبير، وإذا نظرنا للغة على أنها وسيلة تعبير وتجاوزنا عن الأصوات التي يصدرها الانسان فيكون كل ما يعبر عن الإنسان لغة/ من الإشارة والعلامة والإيماءة والغمزة واللمزة ولحن القول، وممكن يندرج تحتها اللوحة المرسومة، والمعادلة الرياضية، والقانون الفيزيائي، والمعادلة الكيميائية.

فالرسم لغة، فتجد في اللوحة مشاعر وفكر ورسالة بثها فيها رسامها، فاللوحة الفنية لغة الرسام، والشعر لغة الشعراء، تحمل حسهم وشعورهم، فهي لغة خاصة لفئتهم.

المعادلة الكيميائية لغة الكيميائي ووجوده بها يفسر سلوك المواد فيبين لنا نتائجها، وبغيرها لا يبان لنا ما هنالك، الفيزياء وقوانينها لغة، والأرقام لغة: فلو وضعت الأرقام بصورة مدروسة ومنظمة فلا بد من أنها تحمل رسائل كثيرة، وهذا ما تراه بوضوح في الأرقام التي تسمى في العلوم بالثوابت، والرياضيات لغة، تظهر في كل نواحي الحياة، في السماء وفي الكائنات، قد وضعها الله على أتم صورة، فالرياضيات يصف ويكشف خلق الله، وهو خطاب للعقول التي تعرف قيمة لغة الرياضيات التي لا تخطئ. ثوابت العلوم وقوانين الفيزياء ومعادلات الكيمياء والحقائق العلمية هي لغة تلكم الله تعالى بها مع من يعقلون (سنريهم حتى يتبين) فإراءتهم الآيات هدفها البيان، وهل البيان الا لغة.

(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء) فالعلماء يفهمون ويدكون ما لا يراه غيرهم، فهم يدركون تلك الآيات وصفات الله تعالى ويفهمون عنه ويعرفون حق الله لانهم أدركوا بيانه تعالى في آياته وخلقه وكتابه.

الله تعالى واللغة:

اللغة بيان، فالله يبين لنا، والبيان أوسع من اللغة وإن كان هو غايتها، فإنه يتحقق بغيرها، فالاشارة بيان، والدلائل كلها بيان، الشجرة بيان تبين قدرة الله، مخلوقات الله تعالى بيان كلها: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد. فالله تكلم معنا بوسائل كثيرة، الوحي واحد منها، آيات الخلق، أنفسنا، الكون الفسيح، معجزات الخلق.. كلها تحمل رسائل لنا من الله تعالى، تنوع الخلق، تجد في خلق الله فنون شتى كل شجرة لها شكل ولون فهي لوحات رسمت بدقة، ولك من الموسيقى أجملها في أصوات الطيور والرياح والمياه، الشجرة الواحدة لها أنواع كثيرة وأشكال والوان متعددة بل هي لغة واضحة بينة صاخبة جدا ولكن بصمت تبين لنا ذات الله وتكشفها لنا ونحن نتذوق ذلك الكشف ونسمع تلك اللغة الصامتة بهدوء ولا يمكن أن نفسرها ولا نحللها ولا ندرك عمقها ويكفينا أمام عظمتها وجمالها وجلالها أن نقول: سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلا. بل هكذا أرادنا الله أن نقول فماذا نقول بعد ذلك.

وما فنون البشر وموسيقاهم إلا محاكاة لذلك الجمال والفن، وما علومهم إلا كشف لتلك الأسرار واللغة الخفية التي أودعها الله فيها ليتبين لهم الحق، وما حضارتنا بكل تفاصيلها الا محاكاة لصفات المخلوقات وعملها وانظمتها، فمخلوقات الله تعالى هل ملهمتنا الحضارة بناء وصناعة وطيرانا واتصالا وهندسة، فكل خلق الله تعالى سيقت بيانا لعظمته وإظهارا لصفاته وحضارتنا تابعة لذلك غير منفكة عنه، فنحن وما نقول وما نفعل وما نصنع وما نعرف إنما نحن بذلك نبين ونكشف ذات الله تعالى فنحن جزء من بيان الله تعالى يظهر بنا صفاته وقوته وعلمه ورحمته وعفوه. فما أعظم الانسان، ألا يكون عظيما وقد كرمه الله تعالى.

...

" خيرالله فالح الوادي".