لم يكن يتوقع أن يعود إليه ماضيه بتلك السهولة. كان يظن، مثل الجميع، أن الزمن يملك القدرة على طمس الذكريات، وأن ما يُدفن في الطفولة يبقى هناك. لكنه لم يكن يعلم أن القدر له طريقته الخاصة في إعادة ترتيب اللحظات، وفي جمع الأرواح المتباعدة ولو بعد سنين.

هو… صيدلاني في النهار، وسائق تكسي في المساء. رجلٌ عرفته الطرقات أكثر مما عرفه الناس، يتنقل بين الوجوه المختلفة، ويستمع إلى قصص لا تنتهي.

وهي… ممثلة مشهورة، اعتادت أن يلاحقها الضوء، وأن تغطي الكاميرات كل زوايا حياتها.

عاش كلٌ منهما حياته، وسلك طرقًا بعيدة عن الآخر، حتى جاء ذلك اليوم الذي تغيّر فيه كل شيء بسبب سناك حلويات قديم.

كانت تجلس في المقعد الخلفي، تحدّق من نافذة السيارة كأنها تبحث عن شيءٍ ضاع منذ زمن. فجأة لاحت أمامها لافتة صغيرة لبائع سناك قديم، توقف الزمن عنده ولم يتغير. اتسعت عيناها بدهشة طفولية، ثم قالت بصوتٍ يحمل شغفًا حقيقيًا:

"هذا… هذا ما كنت أحبّه وأنا صغيرة! ظننت أنه اختفى من العالم."

ابتسم دون أن يلتفت. تلك الجملة وحدها كانت كفيلة بأن تعيد إليه ذكرى مدفونة:

رسالة صغيرة داخل ورقة سناك، كتبت فيها طفلة بكل جرأة الحب الأول:

"أحبك."

ولم يكن يعرف يومها من تكون.

مع مرور الساعات داخل السيارة، بدأ القدر يلعب لعبته. ازدحامٌ غير معتاد، ثم عطل في العجلة، ثم زحمة أخرى… كل شيء كان يدفعهما إلى قضاء وقت أطول معًا، كأن الطرق تتآمر لتأخيرهما.

كانت تتحدث إليه بخفة لا تشبه صورتها المعروفة، وكان ينصت لها بارتباك يعرف سببه جيدًا: كل كلمة تقولها كانت تشبه تلك الطفلة التي أحبته يومًا دون أن يعرف صورتها.

وحين اقتربت لحظة الوداع، عرف أنها سترحل كما رحل كل شيءٍ جميل من حياته. اكتفى بابتسامة هادئة، أخفى خلفها السرّ كله. لم يخبرها أنه هو ذلك الصبي الذي احتفظ برسالتها سنوات. لم يشأ أن يربك حياتها، أو يكسر مثالية اللحظة.

ترجّلت من السيارة، لكن خطواتها تباطأت فجأة. كان هناك شيء يجذبها إلى الخلف، صوت داخلي يقول لها إن الرحلة لم تنتهِ بعد.

استدارت، ورأته يهم بالمغادرة. ركضت نحوه بخفة امرأة قررت أن تتبع قلبها هذه المرة. فتحت باب السيارة الأمامي، وجلست بجانبه دون أن تقول إلى أين تريد الذهاب.

قال لها باستغراب:

"إلى أين أوصلكِ الآن؟"

أجابته بنظرة صادقة:

"لا أريد أن أصل. فقط… أريد أن أبقى هنا."

في تلك اللحظة، أدرك كلاهما الحقيقة ذاتها:

قد تقاوم العلاقات، تبرر، ترفض، تُغلق الأبواب خوفًا من الانجراف…

لكن سيأتي ذلك الشخص الذي يفتحك ببساطة، ويهدم كل الأسوار التي بنيتها حول قلبك، ويجعلك تخضع للحب ولو لمرة واحدة.

الزمن لا يجمع الناس عبثًا.

أحيانًا… كل الحكاية مجرد فرق توقيت.