تأملات في قصيدة (تذكرتُ ليلى) لقيس بن الملوح
حين استمعتُ إلى قصيدة "تذكرتُ ليلى" لقيس بن الملوح لأول مرة، لم أتمالك دموعي، ورقّ قلبي لحال هذا المُحب المعذب الذي عاش في ألم الفراق، ولم يظفر بحبيبته رغم شدة تعلّقه بها.
ثم لم ألبث برهة حتى شرعتُ في إلقاء اللوم عليه، منتبهةً إلى جانب آخر: أن المحب الحقيقي يمكنه أن يبذل الغالي والنفيس من أجل محبوبه. وأحسب أن قيسًا قد بذل جهده، لكنه بذل "المستطاع" فقط، فهو -من وجهة نظري- له يد فيما وقع له من عاقبة. وفي هذا صدق المثل:
"إذا لم تحارب من أجل الشيء الذي تريده، فلا تبكِ على الشيء الذي خسرته."
If you don't fight for what you want, don't cry for what you lost.
غير أن أعمق ما استوقفني في قصة قيس، هو هذا المعنى: مات المحب ولم يظفر بمحبوبته، رغم أنه كان متشبثا بأمل اللقاء.
"وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ** يظنّان كل الظن أن لا تلاقيا"
أخذني هذا المشهد إلى بُعدٍ آخر، وزاوية مختلفة من التفكير، حيث تساءلتُ بألم: كيف يرى الله عبدًا يتعذب هذا العذاب ولا يرحمه بأن يجمعه بمحبوبه؟! أليس الله أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا؟ أليس هو الذي يشفق علينا حين يقسو الناس؟
بحثت عن جواب لهذا الشعور، فتذكرت قصة تُروى عن قيس: أنه تابع كلب ليلى ليدلّه على مكانها! فمرّ على جماعة يصلّون، وعندما عاد مارًّا بهم قالوا له: أتمرّ علينا ونحن نصلي ولا تصلي معنا؟ قال لهم: أكنتم تصلون؟ قالوا: نعم قال: والله ما رأيتكم، والله لو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى ما رأيتموني.
حينها وقفتُ مع نفسي قائلة:
لو كان قيس يحب الله أكثر من ليلى، لما حرمه الله منها.
فخطرت ببالي مباشرةً هذه الآية:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]
والقاعدة:
"من تعلق بشيء عُذّب به."
وتذكرت أيضًا قوله تعالى:
{قُلۡ إِن كَانَ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ وَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ وَأَزۡوَ ٰجُكُمۡ وَعَشِیرَتُكُمۡ وَأَمۡوَ ٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةࣱ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَاۤ أَحَبَّ إِلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادࣲ فِی سَبِیلِهِۦ فَتَرَبَّصُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ} [التوبة: 24]
نعم، قيس وقع -وإن لم يشعر- في نوع من الإشراك العاطفي، حين قدّم حب ليلى على حب الله، رغم أنه ينفي الإشراك عن نفسه في قوله:
أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها ** بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا
وَما بِيَ إِشراكٌ، وَلَكِنَّ حُبَّها ** وَعُظمَ الجَوى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا
ومع هذا، فإن مجرد صرف القلب عن الله إلى محبوب دنيوي على هذا النحو يُعد من التعلق المذموم، وإن كان صاحبه لا يريده عنادًا ولا كفرًا.
ورغم أن قيس كان مؤمنًا بالقضاء والقدر، إذ يقول:
خَليلَيَّ لا وَاللَهِ لا أَملِكُ الَّذي ** قَضى اللَهُ في لَيلى وَلا ما قَضى لِيا
قَضاها لِغَيري وَاِبتَلاني بِحُبِّها** فَهَلّا بِشَيءٍ غَيرِ لَيلى اِبتَلانِيا
إلا أن قوله:
"فهلا بشيء غير ليلى ابتلاني"
فيه شيء من الاعتراض الدفين، وكأنما يسأل الله لماذا هذا البلاء بالذات! هَلَّا ابتليتني بشيء آخر غير هذا!
ورغم شعوري بالأسى عليه، إلا أننا لا يجوز أن نُحاكم الله سبحانه وتعالى، ويجب أن نستحضر هذه القاعدة دائمًا:
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]
فالبلاء إنما يكون فيما نحب ونهوى؛ ليظهر صدقنا وصبرنا وجهادنا، كما قال تعالى:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبۡلُوَا۟ أَخۡبَارَكُمۡ} [محمد: 31]
لقد عاش قيس ومات، ولم يفهم المغزى من بلاء الله له بهذا الحبّ، وقد وهبه الله ملكة مميزة للتعبير عن مشاعره، إلا أنه قد يكون هناك من يحب محبوبه أكثر من قيس، ويعاني مرارة الحب أكثر منه لكنه يكتم ولا يستطيع التعبير. أو يستطيع لكن يكتم رغم ذلك، حِسبةً لله. نعم، نعرف مرارة الحب ونار الفراق، وهذه مشاعر طبيعية مفهومة، لكن ما ليس طبيعيًا هو أن نترك هذه المشاعر تتحكم بنا، تسيطر على حياتنا، تُنسينا الله، تجعل الله رقم2 في الحب! حينها لن نرى خيرًا -في الدنيا على الأقل- وسنعاني في ضنك الحياة، وسنحرم لذة السعادة القلبية؛ بل قد نُبتلى أكثر فأكثر حتى نتعلم أو نهلك.
وتذكر قوله تعالى: {فتربصوا} أي:
انتظروا حتى يأتيكم أمر الله، وجينئذ ستعرفون القيمة الحقيقية للدنيا وقيمة ما عند الله تعالى من رضاء ونعيم.
انتظروا أمر الله الذي سوف يأتي، لأنه سبحانه لا يهدي فاسقاً خرج عن الإيمان، ولا يهدي من جعلوا حبهم للعلاقات الدنيوية فوق حب الله فخرجوا عن مشيئة هداية الله تعالى، فسبحانه لا يهديهم كما لا يهدي الظالمين أو الكافرين؛ لأن هؤلاء هم من قدموا الظلم والكفر والفسق، فكان ذلك سببا في أن الله لم يدخلهم في مشيئة هداية المعونة على الإيمان، أما هداية الدلالة فقد قدمها لهم.
ولهذه الآية الكريمة أسباب نزول، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أُمِرَ بالهجرة من مكة إلى المدينة، أمر المسلمين بالهجرة، فتركوا أموالهم التي اكتسبوها بمكة وتجاراتهم ومساكنهم، وآبائهم وأبنائهم، وإخوانهم وأزواجهم وعشائرهم، التي تستطيع حمايتهم، تركوا كل هذا وهاجروا لأرض جديدة. ولكن من المسلمين من ركنوا للدنيا فبقوا بجوار أموالهم وأواجهم وأبنائهم المشركين، وكانت الواحدة من النساء المشركات تتعلق بقدمي زوجها المسلم الذي يريد الهجرة حتى لا يتركها فكان قلبه يرقُّ لها، ومنهم من كان يخشى ضياع ماله وكساد تجارته، التي بينه وبين المشركين، فنزلت هذه الآية.
ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبعث الطمأنينة الإيمانية في نفوس المؤمنين، فيوضح لهم: إن كنتم تريدون بالآباء والأبناء والعشيرة والأقربين والمال قوة، فاعلموا أن قوة المؤمن من ربه، وإياك أن تنظر إلى ولي آخر غير الله؛ لأن ولاية البشر عرضة للتغير والتبدل، حيث إن الإنسان حدث يتقلب بين الأغيار، فالغني فيها قد يصبح فقيرا، والسليم قد يصبح مريضاً، والقوي قد يصير ضعيفاً، ولكن الولاية الدائمة إنما تكون من قادر قاهر لا يتغير، فإذا كان الله وليك فهو القادر دائمًا، والقاهر دائمًا، والغالب دائمًا، والموجود دائماً، والناصر دائماً ولكن إذا كانت الولاية من إنسان لإنسان فالأغيار في الدنيا تجعل الصديق ينقلب عدواً، والمعين يصبح ضعيفاً لا يملك شيئا، والموجود يصبح لا وجود له بالموت، إذن: فلا بد أن تجعل ولايتك مع الله سبحانه وتعالى: لأن الله هو الدائم الباقي. ولهذا يعلِّم المولى - عز وجل - عبده المؤمن أن يكون دائماً يقظاً، فطناً، لبيباً، فيقول سبحانه وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ} تفسير : [الفرقان: 58].
فالحمدلله الذي رزقنا نعمة فهم رسائل الله سبحانه وتعالى من البلاء، فقد عاش أقوام وماتوا ولم يفهموا، فلم يصبروا وجزعوا وأبعدهم البلاء عن الله بدلا من أن يقربهم فحُرموا من الرحمة وتعذبوا بما علقوا به قلوبهم من دون الله.
فاللهم رحمة من لدنك، ونورا وبصيرة، وهداية ورضا، وشكر وصبر.
والحمد لله رب العالمين
______
خواطر محمد متولي الشعراوي - التوبة 24
التعليقات