قضايا ايمانية ( القضاء والقدر )     

بقلم – ماهر عساف

       من المعلوم بين المسلمين أن الإيمان بالقضاء والقدر هو ركن من اركان الإيمان ، وقد تباينت الأراء في تفسير معنى القضاء والقدر ، ونتج عن هذا التباين نشوء فرق دينية عبر التاريخ الإسلامي ، من هذه الفرق القدرية والمرجئة وغيرها من الفرق التي قدمت تصورات حول القضاء والقدر .

وسنحاول تقديم رؤية معاصرة تنبع من آيات التنزيل الحكيم ، والذي قدم عبر جملة متفرقة من الآيات الكريمة ، تصورا يمكن ان يكون مرجعيتنا في فهم موضوع القضاء والقدر .

ان عدم فهم القضاء والقدر أدى الى تراكم مشكلات ومفاسد عظيمة في حياتنا العملية والعلمية ، وتسبب بوقوع جرائم في المجتمع ، وانتشار الفقر والجهل والمرض .

يقول تعالى ( نحن قدرنا بينكم الموت ) فالموت حقيقة موضوعية حاصلة سواء أمنا به أو لم نؤمن .

فالقدر هو : الوجود الموضوعي ، أي الكون بكل ما فيه من موجودات نعرفها او لا نعرفها هي القدر .

فمثلا: الدماغ هو خلق الله ، وله وظيفة غاية في الإبداع والعمليات المعقدة .

 فالدماغ ووظيفته مقدرة من الله فهو سبحانه يقول ( الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) خلق كل عضو من أعضاء الجسم ووضع له وظائف يقوم بها .

فالقدر هو الوجود الموضوعي للموجودات ووظائفها ويقول سبحانه : ( انا كل شيء خلقناه بقدر) فخلق الله العين وهداها لوظيفة الإبصار وهكذا كل الموجودات ووظائفها .

فالله قدر الأمراض وقوانينها ، لكنه لم يقدر علينا ان نصاب بالمرض ، لأننا اذ عرفنا الامراض المقدرة التي كتبها الله ، واخذنا الحيطة والحذر والوقاية لا نصاب بها ، فاذا اصبنا بمرض فهذا يعتبر تقصير من الانسان وليس قدر .

فالله قدر الوجود وقوانينه ، فالخير والشر كوجود من الله ، ولكن الله امرنا ان نبتعد عن الشر وامرنا ان نسير بالخير ، فالاصابة بالمرض ليس قدر ، فالله قدر المرض ولم يقدر علينا ان نمرض .

والله خلق القمر وجعل له وللشمس وظائف قال تعالى : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍۢ فَقَدَّرَهُۥ تَقْدِيرًۭا ) وقال سبحانه : ( وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّۢ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ ، وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلْعُرْجُونِ ٱلْقَدِيمِ ) فاللقمر وظيفة واضحة ( لتعلموا عدد السنين والحساب )

والله اكد على ان الموت قدر لكن الإصابة بالمرض ليست قدر ، لأننا نستطيع ان نحمي انفسنا من المرض ، ولكننا لا نستطيع منع الموت عن احد فالله يقول : ( نحن قدرنا بينكم الموت )

وقال سبحانه : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا۟ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍۢ مُّشَيَّدَةٍۢ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌۭ يَقُولُوا۟ هَٰذِهِۦ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌۭ يَقُولُوا۟ هَٰذِهِۦ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّۭ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًۭا ) فلا راد لقدر الله وهو الموت ، اما المرض فهو قدر في اصل وجوده وقوانينه لكن الإصابة بالمرض ليست قدر ( نحن قدرنا بينكم الموت ) والله قدر بيننا الامراض جميعا ما نعرفه منها وما نجهله ، وقوانين الوجود لا علاقة لها بنا بخلاف الموت الذي هو لا محالة حاصل .

فكل شيء من الموجودات وظائفها من الله ، الخير والشر ، وقوانين التطور والهلاك ، فالقدر هو الوجود وقوانينه ، فالله قدر قوانين الوجود .

( قل كل من عند الله ) الوجود وقوانينه الخير والشر موجدود بتقدير الله ، وهي موجودة في القرآن ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقههون حديثا ) وهنا الحديث يقصد به القرآن ، فالله يقول : ( الله أنزل احسن الحديث ) فالحديث هو القران .

فالقدر هو الوجود الموضوعي للوجود وقوانينه سواء ادركناها ام لم ندركها .

وقوانين القدر موجودة في القران الكريم

القضاء :

ما هو القضاء يقول تعالى : ( ما اصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك وارسلناك للناس رسولا )

لننتبه الى الرابط بين الحسنة والسيئة ونهاية الاية وارسلناك للناس رسولا ، أي رسالة محمد جاءت تدعونا لاختيار الخير ( إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا۟ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُوا۟ بِٱلْعَدْلِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًۢا بَصِيرًۭا ) ويقول سبحانه ( ۗ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )

فالرسالة تنهانا عن الشر ، وهذا هو القضاء الذي قلنا عنه انه سلوك الإنسان تجاه الخير الموجود المقدر من الله والشر الموجود المقدر من الله ، فهو حركة واعية بين نفي واثبات في الموجودات ، فالقاضي يحكم في قضية ينفي الشيء عن شخص ويثبته على شخص اخر وهذا يقتضي وجود قضية التي هي القدر ويقتضي ان يكون القاضي يعرف القضية وتفاصيلها

فالقدر هو الوجود وقوانينه والقضاء هي الحركة الواعية في الموجود والعلاقة بينهما هي المعرفة ، فالدورة الدموية هي قدر ، وحين تعرفنا على الدورة الدموية واسرارها نستطيع التدخل في علاجها .

فمعرفتنا بالمقدرات ( القدر) كلما زادت زاد قضاؤنا فيها وزادت حريتنا فيها ، لان الانسان بالمعرفة تزيد مساحة تدخله فيما يعرف 

وكلما زادت معرفتنا بالأشياء زاد طلبنا لها ، والقضاء والقدر يساوي الحرية والعلاقة بينهما هي المعرفة ، لان الذي يجعلك قادرا على القضاء هو المعرفة فكلما زادت معرفتنا بالقدر وقوانينه زادت قدرتنا في القضاء

ويقول سبحانه ( ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُۥ بِمِقْدَارٍ ) لاحظ يعلم في الاية ( الله يعلم ) وعلم الله هو المقادير فالارحام تزداد وتنقص والله يعلم مقادير الزيادة والنقص فالله عنده علم القدر بالمقادير ( واحصى كل شيء عددا )

ويقول الله تعالى أيضا ( وكان قدر الله قدرا مقدورا ) فلو فهمت الاية من بدايتها وهي تتحدث عن زواج النبي بعدد من النساء زاد عن الأربعة وهو امر فيه حرج للنبي

( مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍۢ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥ ۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْا۟ مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَرًۭا مَّقْدُورًا ) فقبل النبي كان الزواج مفتوح بعدد غير محدد فالله يقول للنبي ان لا ينحرج لانه عامله بسنن السابقين

الخلاصة

ان ما نتداوله في الفكر التراثي ان القضا هو علم الله الأزلي والقدر نفاذ هذا القدر وهذه مشكلة كبيرة في الفهم ، وان كل ما يحدث حولنا هو قضاء وقدر ، وان كل من تحكم برقاب الناس وحكم الناس هو قضاء وقدر .

ان المطلوب فهم ايات القران والذي عاب علينا عدم فهم قوانين الوجود حين قال : ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) والحديث هو القران فان فهمنا القران فهمنا القضاء والقدر