عُرضت عليّ دعوى شرعية في إحدى المحاكم بسلطنة عمان، فحواها مطالبة المدعيين بالحجر على المدعى عليه، وتعيين ولده المدعي الأول قيّماً عليه، على أساس أنّ المدعى عليه هو والد المدعي الأول وزوج المدعية الثانية، وهو منذ فترة يعاقر الخمر ويدمن على شربها، وبسبب ذلك انقطع عن عمله وأنهيت خدماته، وأصبح يتصرف في ماله على غير مقتضى العقل والشرع، حيث ينفق المال على شرب الخمر، ويحرر شيكات على بياض للحصول على المال لذلك، ونتيجة ذلك بدّد كلّ أمواله وبقي المنزل المشار إليه، وكان الحكم بفضل الله تعالى نتاج بحث حولَ أمرين:
الأول: جوازُ الحجر على السفية، وخلاصة ذلك أنه "من المعلوم شرعاً أنّ الحجر هو منع الانسان من التصرف في ماله، وأنّ السفه هو تبذير المال وصرفه في غير موضعه الصحيح بما لا يتفق مع الحكمة والشرع، وعلى ما يقارب هذا المعنى جاء قانون الأحوال الشخصية حيث نصّت المادة (د/155) على أنّ "السفيه هو مبذّر ماله فيما لا فائدة فيه"، ومن المعلوم شرعاً أنّ أهل العلم اختلفوا في السفيه هل يحجر عليه أم لا؟ فالجمهور على أنّه يحجر عليه، وأبوحنيفة يرى عدم جواز الحجر على الحرّ البالغ العاقل بسبب السفه، والمحكمة ترتضي قول الجمهور؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} النساء: ٥، على أنّ هذا الحجر إنما هو لمصلحة السفيه نفسه رحمة به حتى يوفّر له ماله في وقت تكثر فيه مسؤولياته وتتعدد واجباته، فيجد في ماله سبيلاً للنجاة والعيش الكريم، وهو صون لماله من عبث العابثين وحدٌ لهوى النفس بالإنفاق في وجوه غير صحيحة، (ينظر الفقه الإسلامي وأدلته 6/4462)، وعلى هذا جاء قانون الأحوال الشخصية، حيث اعتبرت المادة (151) من أكمل سنّ الرشد رشيداً مالم يحجر عليه لعارض من عوارض الأهلية، ونصّت المادة (155) على أنّ من عوارض الأهلية السفه، واعتبرت المادة (ب/141) السفيه ناقص الأهلية، والمادة (140) اعتبرت السفيه في حكم القاصر، فلما كان ذلك، وكان المدعى عليه قد أقرّ أنّه يشرب الخمر وأنّ آخر مرة شرب فيها الخمر قبل جلسة النطق بالحكم بيومين، وأقرّ بأنّه يشتري الخمر، وقد تبيّن أنّ السفيه هو مبذّر ماله فيما لا فائدة فيه، فإنّ إنفاق المال - ولو قليلاً - في شرب الخمور يعتبر تبذيراً له فيما لا فائدة منه، بل فيما فيه الضرر المحض على صحة شاربه لما يسبب من الأمراض الكثيرة، ومن هنا حرّم الله الخمر حين قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} المائدة: 90، بل لشدّة حرمتها وعظيم أثرها لُعن كلّ ما لابس الخمر معها فعن ابن عُمَرَ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(لُعِنَتْ الْخَمْرُ على عَشْرَةِ أَوْجُهٍ بِعَيْنِهَا وَعَاصِرِهَا وَمُعْتَصِرِهَا وَبَائِعِهَا وَمُبْتَاعِهَا وَحَامِلِهَا وَالْمَحْمُولَةِ إليه وَآكِلِ ثَمَنِهَا وَشَارِبِهَا وَسَاقِيهَا) رواه ابن ماجة برقم: 3380، وعن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ( لَا يَزْنِي الزَّانِي حين يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ ولا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حين يَشْرَبُ وهو مُؤْمِنٌ) رواه البخاري برقم: 6390، وما كلّ ذلك إلا لشدّة خبثها وما تؤول إليه حالة المدمن عليها من اللّهف الشديد للاستمرار في شربها، وما يؤدي إليه ذلك من إنفاق الطارف والتليد من أجلها، فأيّ سفهٍ أعظم من ذلك، فلهذا تقضي المحكمة بإثبات الحجر على المدعى عليه للسفه.
والثاني: تعيين القيم على المحجور عليه، وخلاصة ذلك أنّه "من المقرّر قانوناً طبقاً للمادة (142) من قانون الأحوال الشخصية أنّه "يتولّى شؤون القاصر من يمثّله، ويدعى حسب الحال وليّاً أو وصيّاً (ويشمل الوصي المختار ووصي القاضي) أو قيّماً"، ونصّت المادة (171) من القانون ذاته على أنّه "يعين القاضي وصيّاً خاصّاً أو مؤقتاً كلما اقتضت مصلحة القاصر ذلك، فلما كان وكان المدعي الأول قد حضر ولم تر المحكمة مانعاً من تعيينه قيّماً على والده المدعى عليه، طبقاً لشروط الوصي الواردة في المادة (172) من قانون الأحوال الشخصية، فإنّها قضت بتعيينه قيّماً على أبيه المدعى عليه.
العبرة من الدعوى:
أنّ مَنْ عجزَ عنْ إدارةِ نفسه كانَ عنْ إدارة مالهِ فضلاً عن إدارة غيرِه أعجزَ.
وتجد - أخي القارئ - نسخة #الحكم_القضائي في رابط مدرج بالمقال الآتي:
oktob.io/posts/62460
أو على هذا الرابط المباشر:
onedrive.live.com/?authkey=%21AJ…