"كن أكثر ثقة"، قالها لي صديقي ذات مرة عندما كنا نتجول في حدث اجتماعي ضخم، حيث كنت أشعر ببعض الرهبة وأنني بالمكان الخطأ. تزييف الشعور بالثقة أمر سهل، كل ما عليك فعله هو أن تعيد كتفاك إلى الخلف وتتحدث بصوتٍ عال وبطريقة أكثر صرامة. قضيت وقت لا بأس به في محاولة إظهار نفسي كمتحدث واثق، لبق ومهذب كالعديد من الأشخاص الآخرين. لكن اتضح لي مؤخرًا أن أهمية الثقة مبالغ بها. أريك باركر مؤلف كتاب "breaking up the wrong tree " يقول: “إننا نحب الشعور بالثقة لأنه يمنحنا إحساس جيد بالسيطرة على حياتنا، حيث أن غيابها يعني قلق مستمر".
نحن نعيش في مجتمع يقدس الشعور بالثقة وتقدير الذات، لكن اتضح أن هناك طريقة أخرى للنجاح وتطوير الذات، وهي التعاطف مع النفس. في حين أن الثقة بالنفس تجعلك تشعر بالرضا عن قدراتك، إلا أنها قد تقودك أيضًا إلى المبالغة في تقدير هذه القدرات. التعاطف مع النفس من ناحية أخرى، يشجعك على الاعتراف بعيوبك وحدود قدراتك، حيث يجعلك تنظر لنفسك بموضوعية وواقعية أكثر.
التعاطف مع النفس والثقة بها أمران مهمان ولكل منهما مزايا. لكن الخبراء يعتقدون أن التعاطف مع النفس يتضمن جميع مزايا الثقة بها دون المساوئ التي قد تقود إليها الثقة الزائدة. يؤكد أريك باركر في كتابه، إن الثقافة الانتاجية تتطلب وتعزز تزييف شعور الثقة دون الالتفات للمساوئ التي قد تؤدي إليها، أي أنك عندما تزيف الثقة، قد تبدأ بتصديق حقائق وهمية ومبالغ بها عن قدراتك مما قد يقودك إلى نتائج كارثية. يقول أريك باركر أيضا: "لأن الثقة بالنفس تعطينا شعورًا جيدًا، فإننا لا نلاحظ عندما تصبح هذه الثقة مبالغ فيها"، وهذا معروف باسم تأثير دانينغ كروجر، وهو انحياز معرفي حيث يميل الأشخاص إلى المبالغة في تقدير مهاراتهم. لكن هذا لا يعني أن نشعر بعدم الكفاءة، وتقترح الدكتورة نيف المتخصصة في علم النفس التربوي بجامعة تكساس حلًا لمشكلة الأفراط بالثقة وهو: التعاطف مع النفس. تقول الدكتورة نيف:" إن التعاطف مع النفس هو أن تعامل نفسك باللطف والاعتناء الذي تعامل به أحد أفراد عائلتك"، وأضافت: “إننا بحاجة إلى وضع أنفسنا في إطار إنساني، وهذا ما يجعل التعاطف مع النفس مختلفًا، فهو يعني أن تقبل أنك إنسان ناقص يعيش حياة غير كاملة.".
من خلال هذا التعريف فإن التعاطف مع النفس هو النقيض من الأفراط بالثقة. وتقول الدكتورة نيف أيضًا إن الاعتراف بأن لدينا عيوب ومساوئ تمامًا كأي شخص آخر يبقينا على اتصال مع الآخرين، ويمنعنا أيضًا من تضخيم عيوبنا أو نقاط القوة لدينا. وخلافًا للثقة المفرطة التي تكون في الغالب عبارة عن إخفاء للعيوب وغيرها من أوجه القصور الإنساني، فإن التعاطف مع النفس يقبلها كما هي بدلًا من إخفاءها، كما يقول السيد باركر فإن التعاطف مع النفس يتضمن جميع إيجابيات الثقة بالنفس دون الجانب السلبي لها.
تقول الدكتورة نيف:" يعتقد الكثير من الأشخاص أن التعاطف مع النفس ضعف"، وأضافت: “عندما تكون في خندق، هل تحتاج إلى حليف أم عدو؟!". في حين أن الثقة تهدف إلى جعلك تشعر بأنك كفؤ وقوي كفايةً بغض النظر عن واقعية هذه المشاعر، فإن التعاطف مع النفس يشجعك على قبول واقعك بموضوعية أكثر.
على سبيل المثال، دراسة نشرت في مجلة بيرسونالتي اند سوشيال سيكولوجي (the Journal of Personality and Social Psychology)، حيث قاموا بمقابلة مجموعة من الأشخاص وطلبوا منهم أن يصفوا أنفسهم. قاموا بتسجيل هذه المقابلات، ثم أخبروهم أنه سيتم تقييمهم بناءً على مدى لطفهم وذكاءهم الذي أظهروه في هذه المقابلات. الأشخاص الذين لديهم مستوى عالي من التعاطف مع النفس أظهروا ردود فعل عاطفية متشابه مهما اختلفت التقييمات، أما أولئك الذين لديهم تقدير عالي للنفس فقد أظهروا ردود فعل عاطفية سلبية إذا كان التقييم: "عادي"، أو “غير استثنائي"، وكانوا أيضًا يميلون إلى إرجاع أسباب تقييماتهم " العادية" إلى عوامل خارجية.
وبصفة عامة تشير هذه الدراسات إلى أن التعاطف مع النفس يخفف من وقع الأحداث السلبية على الإنسان بصورة مختلفة – وفي بعض الحالات بصورة أفضل- من الثقة بالنفس. بدون الضغط المستمر الناتج من السعي وراء الكمال والظهور بمظهر الإنسان الخارق، فأنه من الأسهل علينا أن نتقبل النقد والتعليقات، حيث سيكون من الصعب على الإنسان أن يتطور إذا كان يرى نفسه كاملاً ويعرف كل شيء.
وتقول الدكتورة نيف إن التكيف يعتبر من أهم فوائد التعاطف مع النفس. في واحدة من الدراسات التي أجرتها هي وزملاؤها على مجموعة من الجنود العائدين من الحرب في أفغانستان والعراق، حددوا أن ما يقارب نصف المجموعة التي أجريت عليها الدراسة –ما يعادل نسبة ٤٢٪- يعانون من أعراض متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة (post-traumatic stress disorder)، باستخدام استبيان مكون من ٢٦ عنصر يحتوي على عبارات من نوع: “أنا متسامح مع أخطائي ونواقصي"، ثم قامت الدكتورة نيف وزملاؤها بتقييم مستوى تعاطفهم مع أنفسهم. توصلت الدراسة إلى أن أكثر الجنود تعاطفًا مع أنفسهم كانت أعراض متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) لديهم أقل حدة من غيرهم، وأضافت الدكتورة نيف أن الأشخاص المتعاطفين مع أنفسهم أقل ميلًا لاجترار المشاكل لأنهم يملكون القدرة على كسر دائرة السلبية بتقبلهم لعيوبهم الخاصة.
بطبيعة الحال للثقة بالنفس العديد من الفوائد، حتى لو لم يتم ذكرها، و هناك دراسة نشرت في مجلة بيرسونالتي اند سوشيال سيكولوجي (the Journal of Personality and Social Psychology)، تشير إلى أن التظاهر بالثقة يكسبك إعجاب الآخرين واحترامهم، وربما مساعدتك للحصول على مكانة اجتماعية أعلى. ووجدت دراسة أخرى نشرت في مجلة بلوس ون (Plos One)، أن الأشخاص الذين يظهرون ثقة مفرطة بأنفسهم يراهم الآخرون أذكى وأكثر كفاءة مما هم عليه في الواقع.
لكن التعاطف مع الذات وقبولها يقدم لك فوائد كثيرة، من السهل على الأشخاص المتعاطفين مع أنفسهم أن يتقبلوا أخطاءهم ويحسنوا منها ومن أوجه القصور لديهم، وأن ينظروا إليها بمزيد من الموضوعية، وتبين البحوث العلمية أن التعاطف مع النفس أكثر فاعلية في التحفيز الإيجابي.
الأشخاص المتعاطفين مع أنفسهم يكونون عادةً أفضل في الاعتراف بأخطائهم. أجرت جوليانا برينز وسيرينا تتش من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، سلسلة من التجارب لقياس تأثير التعاطف مع النفس على النمو الشخصي. في إحدى الدراسات طلبوا من مجموعة من الأشخاص التفكير في شيء سيء قاموا به جعلهم يشعرون بالذنب (الكذب على شريك، كمثال)، تم تقسيمهم بعد ذلك لثلاث مجموعات: مجموعة التعاطف مع النفس، مجموعة الثقة بالنفس، مجموعة التسلية الإيجابية. حيث طلب من المجموعة الأولى أن يكتبوا عن أنفسهم من وجهة نظر متعاطفة ومتفهمة، وطلب من مجموعة الثقة بالنفس أن يكتبوا عن صفاتهم الإيجابية، أما مجموعة التسلية الإيجابية فطلب منهم الكتابة عن هواياتهم والأمور التي يستمتعون بفعلها. وبناءً على الدراسة فإن الأشخاص في مجموعة التعاطف مع النفس كانوا أكثر حماسة في الاعتراف بأخطائهم من المجموعتين الأخيرتين، وكانوا أيضًا أكثر التزامًا بعدم تكرار أخطائهم.
وما هو أكثر من ذلك، فإن التعاطف مع النفس يساعد على التعاطف مع الآخرين بشكل أفضل، وقد وجدت الدكتورة نيف وزميلتها تاشا بيرتيفاس في جامعة تكساس في أوستن، أن الأشخاص المتعاطفين مع أنفسهم يكونون أكثر دعمًا وتعاطفًا مع شركائهم من الأشخاص الانتقاديين، فإذا أخبرك شريكك عن عيب ما فأنك ستتقبله وتسامح نفسك عليه ثم تعمل جاهدًا على تعديله.
من السهل أن ترفع كتفاك وتعيدهما إلى الخلف، لكنه ليس من السهل أن تتعلم كيف تكون عطوفًا على نفسك وتتقبل أخطاءك، وسيأخذ منك مجهودًا أكبر. اقترح السيد باركر في كتابه عدة طرق لتعزيز التعاطف مع النفس أولها أن تقبل كونك إنسان، وأن تتقبل أخطائك ثم تحاول تجنبها. وقال السيد باركر:" أن الشيء الأهم الذي يجب أن ننتبه إليه هو ذلك الصوت في رؤوسنا، الصوت الذي يعمل في الخلفية طوال فترة حياتنا"، وأضاف: “إن هذا الصوت غالبًا ما يكون انتقادي، ويلومك على كل خطأ، لكن لتكون أكثر تعاطفًا مع نفسك يجب أن تستمع إليه وتقوم بتصحيحه".
هذا لا يعني أن تكذب على نفسك وتعيش في وهم، لكنه يعني أن تغير طريقة مخاطبتك لذاتك. قد يساعدك تخيل أن ذاتك هي شخص عزيز لديك يحدثك عن أخطائه، ستقوم بمخاطبته بعطف أكثر وتقدم له الدعم الذي يحتاجه بدلًا من انتقاده. لكن تذكر أن ذلك الصوت في رأسك ليس عدوك، وهذا خطأ شائع يقع فيه الكثير مما يجعل الأمور تزداد سوءً، وقالت الدكتورة نيف أيضا إن هذا الصوت هو آلية نجاة تبقيك بأمان، وأضافت:" لا تلم نفسك لأنك تقوم بلومها وانتقادها، أنت فقط تحتاج أن تتعلم كيف تصبح صديق لنفسك".
كرستن وونق، كاتب مستقل، ومؤلف كتاب احصل على المال ( get money ).
المصدر:
