تخيل معايا لو صحيت فى يوم لاقيت العالم خالي من الكدب مافيهوش كذابين …

هااا تخيلت ؟ ..

لاقيت عندى صعوبة فى تخيل العالم دا هيكون عامل ازاى، بس الفكرة يوم ما اتعملت فيلم “The Invention of lying” كان ممل، كان لازم يكون فيه كذب فى الفيلم من الأول لزوم وجود صراع ومشكلة وتحدي للبطل وكده ! دا على مستوى كونه فيلم سينما محتاج أدوات عشان يكون مشوق ..

لما بنفكر فى معنى الكذب للوهلة الأولى بنلاقى تصور نمطي شائع -ع الأقل فى مجتمعاتنا- ان الكذب مجرد شئ مرتبط بالكلام فقط.. بدءا من المبالغة فى محتوىC.V بتاعك ومشاركة الأخبار اللى بتيجي قدامك من على صفحة الأى حاجه من باب المشاركة وبغض النظر عن صحتها، مرورا بالمجاملات الاجتماعية، وتجملنا قدام بعض وصولا إلى استخدام الأعذار لرفض دعوة أو للخروج من موقف ما، وزوايد حشو الكلام اللى بنملا بيها اليوم حكاوي على اعتبار انها حاجه بتعدي الوقت وتمشي اليوم ..دي أمثلة لأكاذيبنا اليومية اللى بنعتبرها غيرضارة وتعدي.. الكدب اللى ع الوش من بره دا ،كلنا جربناه مش جديد علينا.. لكن هل هو دا الكذب بعينه ؟ ..احنا هنا عشان نتكلم عن حقيقته بلغة ولسان السينما فى محاولة خلال رحلتنا دى إننا نجاوب ع السؤال ونِجيب خلاصة و اخر هذا الشئ اللى اسمه الكذب.

" سيبك م اللى جوا المنهج ، أنا عايز أحكيلك اللى برا المنهج "

دي فى رأيي الجملة الأيقونية اللى ممكن تتبروز من فيلم برا المنهج تأليف عمرو سلامة وخالد دياب وإخراج عمرو سلامة .. قالها "المراكبي" للطفل "عماشه"، وعماشه دا الاسم اللى اتفرض على نور من أصحابه ف المدرسة زى ما هما شايفينه، والمراكبي هو الاسم اللى اختاره أحمد وحيد عشان يكونه ويختفي بيه عن الناس، واللى قام بدوره ماجد الكدوانى ..

 طب ايه حكاية جوا وبرا المنهج دى وايه علاقتها بموضوعنا؟ ..اللى جوا المنهج دايما ومن خلال أحداث الفيلم هى قصص التاريخ اللى اتقالت لنا واتنقلتلنا مبتورة أو مجتزأه، مزورة لغرض ما، القصص اللى موجود منها كتير في المناهج الدراسية، وبالتوازي مع دا هى قصص أبطال الفيلم، وجهين لعملة واحدة مجتمع بيزور فى تاريخه، فيصنع أبطال بلاستيك وهميين، وأفراد من نفس نسيج المجتمع وانعكاس لقصصه وربما نتاج ليه، وحكاياتهم مزورة فى بعض أجزاءها الأساسية.. المجتمع قالهم دى مقاييس البطولة وهما وافقوا. فى كتاب The truth about lying بيحكي عن أصناف وألوان كتير من الكذب ورغم عدم اتفاقى مع بعض أجزاء فى الكتاب ونبرة الكلام اللى بتصدر فى بعض الاحيان الكذب على انه فخ بيقع فيه صاحبه فجأة دون قصد، إلا إنه الكاتب قال بديهيا وبوضوح "الكذب ليس شيئا يحدث دون هدف أو مصلحة شخصية، فتضليل الآخرين حدث مقصود وسلوك يختاره الشخص عن قصد ونية ". وفى الجزء الأول كان بيميز بين أنواع الكذب اللى أبرزها وأكثرها خبثا إتقان المراوغة لأنها مش مجرد تبديل للحقيقة بكاملها إنما تبديل جزء من الحقيقة أو حذفها بهدف التضليل أو تخريب المضمون، وبعيدا عن التعريفات الأقرب للدراسة الأكاديمية فالوصف اللى فات دا بيلخص الخداع اللى اتحكت بيه القصص اللى جوا المنهج ..

أما اللي برا المنهج هو الحقيقة واضحة مكتملة بدون أكاذيب أو مراوغات ، وهو دا الخط الدرامي للفيلم ، رحلة الفيلم هى عن Man Vs himself حرب الإنسان ضد نفسه وتقدر تقول كمان رحلة اكتشاف، اكتشاف للذات دا اللى بارز من أول دقيقة لآخر دقيقة فى الفيلم .. الفيلم بيحكي عن طفل بدأ بدفن اسمه مرورا بدفن أبوه واعتباره ميت رغم انه كان موجود وعايش إلى أن انتهى بدفن كل ما يخص شخصه، وزيه أحمد وحيد اللى أخفى شخصيته واسمه واستبدله بالمراكبي..فى إشارة لتشابه أبطال الفيلم وانهم انعكاس لبعض من أول دقايق الفيلم كده ، ورغم إن الفيلم فيه شبه فى التفاصيل من الفيلم الملهم Pay it forward - لو اتفرجت عليه هتفهم وجه الشبه - إلا إنه فى قالب تانى مختلف، عمرو سلامة وخالد دياب مانسخوش الفيلم لكن أخدوا تفصيله بإبداع ورشاقة وحطوها جوا frame تانى خالص عشان يطلّعوا قماشة جديدة بنهاية مفتوحة تزغزغ عقل المشاهد وتثير تساؤلاته،من إزاى تكون مؤثر فى العالم فى دوايرك الصغيرة والكبيرة(Pay it forward) إلىframe الكذب وخطورته فى (برا المنهج).. المراكبي "الاسم المزيف لأحمد وحيد" كان شبح ، كان مستخبي عن الواقع والحياة وكان وراه سر مخبيه، والسر بدأ ينكشف لما شاف نفسه فى عماشه وكأنه مرايا ليه بتكشفه، وبدأ يتعاطف معاه ويحل محل أبوه الغايب.. المراكبي كان بيهرب من كذبته على نفسه بلعب دور مدرس التاريخ اللى بيحكي القصص الحقيقية اللى مابتتحكيش فى المنهج، واللى بتكشف الفبركة الموجودة جوا المنهج وازاى تم تشويه الحقيقة لغرض ما، ربما لخلق أبطال خارقين مبهرين أوتقديس بعض الأشخاص.. جوا المنهج ربما فيه حكايات مُسلية، لكن عن أبطال للعرض الخارجي فقط مش من لحم و دم.

المراكبي من أول الفيلم قرر يلبس لبس مش لبسه.. زي ما قرر ياخد اسم مش اسمه، قرر يبقى شبح ورغم كده لابس شبشب زنوبة وبيحس ويتعاطف ويتخض ويعمل شاي، عمرو سلامة سابلنا بقايا بني آدم فى المراكبي عشان يقولنا إن الكذب بيحولك لشبح، إنسان ولكن مشوه..

المراكبي قرر يكون شبح مستخبي عن الواقع فى حماية أسلحته الهشة الضعيفة، وحكاية الفيلم بتقول إن كل كداب وليه شبحه الخاص اللى اختاره، برغم ان الشبح الوحيد اللى كان متجسد تجسيد مادي هو شبح أحمد وحيد المراكبي.. لكن الفيلم مليان بالأشباح تقدر تشوفها داخل الفيلم وتشوف كمان اللى منها فى حياتنا برا الفيلم.

فى رأيي اختيار فكرة الشبح مُلفتة وبتقول عظمة كتير.. بتقول إن كل شئ بنستخدمه عشان نهرب بيه عن حقيقتنا وعن واقع الحياة حوالينا، بيحول صاحبه لشبح عايش فى عالم افتراضى من صنع خياله، فى الفيلم المراكبى استخدم اللبس "المُخيف فى ظنه"عشان يتحول لشبح رغم إن هو اللى كان خايف! و دا وضح لما بنت المراكبي قالت " كنا بنلبس وشوش بتخوّف، عشان نخوف بيها الناس"، فى الفيلم أشباح تانيه منها خرافات المجتمع المتوارثة، التصديق فى الدجل و زى التلميح لاستخدام شماعة القدر والنصيب كحجة و حل عشان مريح وبيطمن (حاجه كده تفكرنا بفيلم البيضة والحجر)،، البحث عن أبطال بقصص مصطنعة نتحامى فيهم، الهروب من واقعنا بتجميله، تزييف الخبر اللى ممكن بعد شوية يتحول لتزييف التاريخ، كدبات تحول ناسها لأشباح للهروب من حقيقة ربما تكون مؤلمة أو بتحطهم قدام مسؤولية ما، وقيس بقى على دا وشوف اللى بتشاور عليه نفس الفكرة لكن برا الفيلم، هنا ونقف وقفة مع واقعنا وأشباحه، ولأن الفيلم دعوة للمجتمع عشان يواجه أشباحه ، ف خُد عندك كمثال حاجه زي فكرة "الترند" بمفهومه الدارج ، ثقافة الأكثر انتشارا وابهارا وغرابة وليس الأكثر أهمية وأثر، والتنازل عن المحتوى لعمل أعلى مشاهدات، كذبة صاحبها يتحول لشبح لما يصدق ويسمي الانتشار ونسب المشاهدات نجاح بغض النظر عن التأثير أو المضمون.

ولكن الكذبة مش ف الحاجات نفسها، لكن في تحويلها من مجرد أداة إلى غرض فى حد ذاتها لتصبح هى العالم بحاله، نرجع للفيلم اللى بيركز ع الفكرة الموجودة ورا الكذبات دى، الفكرة هى اللى باقية معاك ومكملة، وقادرة على تكرار نفسها فى قوالب جديدة بغض النظر عن الأداة، وعشان تفهم قصدي تعالى كده زووم أوت بعيد عن الشاشة وعالمها متجها إلى عالمنا.. "الترند" فكرة تخرج من جوا الشاشة، عشان تتحول لقناعات بتصب فى واقعنا برا عالم الشاشة فتلاقى المنافسة ع البطولة المزيفة والنجاح السهل والسريع، والبحث عن الإبهار لمجرد الإبهار، وترويج أخبار كذب لمجرد انها غريبة،ثم المكسب السهل وازاى تكسب مش عارف كام دولار ف كام ساعة وغيره .. خرج من مجرد كونه عالم صغير ورا شاشة لسلوك وأسلوب حياة.

وبص بصة ع Social Media بعد مشاهدة “The Social Dilemma” فيلم بيحكي عن الهوس فى استخدام Social Media وازاى دا عمل تباعد اجتماعى وعزلة أكتر منه تقارب، وما يصاحب دا من أضطرابات نفسية نسبتها كل مادا فى ازدياد بالإحصائيات، الفيلم وثائقى درامي قائم على أحاديث مع ناس كانت بتشتغل جوه الصناعة دي.. يتخللها مشاهد درامية بتشرح إزاى بيتم تخريب إنسانيتنا بأكاذيب لنتحول مع الوقت إلى أشباح، دراما Social Dilemma بتورينا إزاى العالم دا بيخلي دراويشه والمحبوسين فيه يبنوا صداقات وعلاقات هشة مش حقيقية منتهية الصلاحية من قبل ما تبتدي زى قصص جوا المنهج كده معتمدة ع الإبهار ، وعلى استخدام الآلة للدرجة اللى فيها تكون الحياة هى الاستثناء واللى ورا الشاشة هو الواقع، الفيلم مش عن خطر "السوشيال ميديا" كشر مطلق إنما عن الهوس بيها وخطر إدمانها لتصبح حياة أشباح تحكمها قواعد اللايك والشير وغيره من تفاعلات وسباقات وهمية يمكن أن تصل الى حد الهوس هوس الثراء السريع ، الشهرة ، إدمان الإعجاب… .. ( ودا تم تجسيده فى حلقات السلسلة الرائعة Black Mirror ذات الحلقات المنفصلة، المتصلة فى الفكرة، ولو عايز تشوف - كمثال- حاجه تشبه واقعنا الحالي وتنبئ بخطر مرعب فى المستقبل القريب اوي ابتدي مثلا بمشاهدة الحلقة الأولى من الموسم الثالث) ، مش دي بس أشباح الكذب اللى هتلاقيها فى الفيلم ، الأخطر من كده هو أكل عيش الشركات دي .." أنت ".. بتتحول لأداه بسهولة تخدّم على مصالحها من إعلانات وصفقات (وشوف ازاى بيتم استخدام الإنسان فى الترويج للاعلانات فى فيلم مهم زي The Truman show) - من خلال تغيير قناعاتك وسلوكك مع الوقت لتتماشى مع مصالح الشركات دي، وكمان عشان تشبه مجموع الناس فى هذا العالم وماتبقاش غريب، الشركات مش بتعمل دا عشان هما قاصدين يأذوك لا سمح الله إنما عشان يحققوا مصالحهم المادية، وإحنا-المستخدمين- بنكون الأداة ، فيه مقولة شهيرة بتقول " لو مش بتدفع تمن الخدمة/السلعة، فأنت السلعة" على رأي منير الحكاية والحواديت كلها دايرة عليك، ببياناتك بمعلوماتك بكل اسكرولايه ليك و كل اكتيفيتى بتعمله، شبح من نوع خاص كذبة بس محبوكة وعايزين نصدقها ربما عشان على هوانا أوخوف نكون معزولين عن هذا العالم ! Social dilemma مش محاولة لشيطنة الحاجات دى، زى ما برا المنهج مش محاولة لشيطنة الحاجات فى حد ذاتها ايا كانت (مرة كانت خبر– ومرة لبس – مرات احتياجات) لكن لما تتحول لكذبة ، بتعمل من صاحبها شبح، لما الخبر يبقى كذبة للهروب من الحقيقة واللبس يبقى أداة لإخفاء حقيقة شخصياتنا والاحتياج للقيمة والتأثير يتحول إلى رغبة فى الشوو- كبديل كاذب- يستخدم لجذب انتباه الجمهور، هتشوف كل دا فى الفيلم وغيرها من مشاكل أصحابها بيسموها اسماء غير اسماءها مش هي حقيقتها للهروب من مواجهة مشاكلهم وتسهيل تحقيق راغباتهم بكذبة ، المشكلة دايما فى الإنسان أو إن جاز التعبير الشبح اللى بيربيه جواه.. والحقيقة إن دلوقت وفى آخر عشرة عشرين سنة بقى سهل جدا تحويلك لشبح على حساب إنك تكون إنسان .. لأنه ببساطة الكذب بقى بزراير ، أصبح متاح اكتر من أي وقت، وكمان أسهل وسيلة لتحقيق رغباتنا إذا تهيأت الظروف .

هنا بقى ونظرة على فيلم The Truman Show العظيم .. اللى بيواجهنا وش بالسؤال .. هو ايه اللى يقولك إن العالم اللى أنت عايش فيه دا حقيقي؟ وايه اللى يفرقه عن الوهمي؟ .. تشوف يعني ايه عالم كامل بحاله مصنوع من الكذب ولكن الفرق هنا إن بطل القصة Truman -واللى جسّده بحرفنه "جيم كارى"- رافض العالم دا، مش هو اللى صانعه، لحد ما بيكتشف العالم المصطنع اللى حواليه ويخرج براه، رغم إنه يبدو من شكله انه عالم جميل وبيديله - بالكدب - "احتياجاته" كإنسان ، بس برضو.. يكفى إنه عالم مش حقيقى، واللى أثار فضول Trumanللتحرك والبدء فى رحلته وبحثه عن العالم الحقيقي، هى الأيام المتكررة اللى شبه بعضها والمفروضة عليه، الحياة الفاضية والمملة اللي بلا معنى، بدأ يحس انه محبوس، وإن فيه حاجه غلط ..مش دا العالم اللى مفروض أكون فيه.. عالم شكله حلو من برا بس بلا معنى.. الفيلم عن رحلة واحد عايز الحقيقة فبيوصلها ويشوفها زي ما هي لأنه ببساطة عايز يعيشها حتى وهو بيتم إغراءه بتجميل الوهم وتزويقه، ولك أن تتخيل فيلم زى دا من سنة 1998 -ومن غير حرق للي ماشفهوش- بيتكلم عن .. يعني ايه تعيش فى واقع افتراضي، وازاى بيتحول إنسان إلى مادة للفرجة .. شبح !!

وللحديث بقية …