وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيم 49 وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ 50
الآية الكريمة تذكر بني إسرائيل ـ ونحن معهم ـ بحدث تاريخي هائل ومأسوي ومفجع ,هم لا يستطيعون نسيانه ولا إنكاره , حتى يكون هذا القصص آية لهم على صدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم , فيأمنوا به ويتبعونه فتكون نجاتهم من الكفر والضلال الذي ولغوا فيه منذ زمن بعيد , والآية الكريمة تقدم لنا مشاهد حية متحركة مفعمة بالأسى , نسمع من خلالها أصوات الأنين , ونرى الدموع تترقق في محاجرها , والآهات تشق صمت الليل الحزين , مأساة أمة وشعب , على يد أمة وشعب آخر , الآية الكريمة تنبئنا أن الذى أقام لبني إسرائيل محافل التعذيب الهمجية هذه هم ءال فرعون , وهم كل المؤمنين بفرعون كحاكم له الحق على الشعب , وليس لاحد من الشعب عليه حق , وكل معاونيه وأوليائه وجنوده أجمعين , ولذلك نرى الآية الكريمة تصف مشاهد التطهير العرقي بصيغة الجمع المضارع , يسومونكم ,يذبحون , يستحيون , وهذا يدل على أن فرعون إستطاع تجنيد قطاع كبير من القبط المصريين للمعاونة والمساندة والدعم اللوجستي والمعلوماتي في هذه الهجمة البربرية المجرمة على شعب بني إسرائيل , ولا ندري الأسباب التي كانت من وراء حملة " التطهير العرقي " هذه , ولكننا نستطيع أن نؤكد على السبب الديني , كسبب رئيس لهذه الحملة المجرمة على شعب بأكمله أطفالاً ونساءً ورجالاً وشيوخاً , رغم أن بني إسرائيل في هذه الفترة من تاريخهم كانوا قد خرجوا من التوحيد إلي الوثنية, التي اكتسبوها ودخلت عليهم من مخالطة الوثنين المصريين , ولكنهم ظلوا محتفظين بعادتهم وتقاليدهم , المخالفة لتقاليد وعادات القبط المصريين , وسبب آخر يمكننا أن نلمحه من خلال هذه المشاهد القرآنية المعجزة , أن الطغاة المجرمون من الحكام أمثال فرعون ـ وأمثاله كثير في التاريخ القديم والمعاصر ـ يريدون إشغال الشعب في ملهاة مصطنعة , أو مأساة مختلقة وملفقة , التي على أثرها يفترق الناس ويختلفون ... وهكذا يستبدون بالملك , ويملكون الناس كما يملكون المتاع الرخيص ! ..
.أما ما ذكر في كتب التفسير من أن السبب في ذلك تلك الرؤيا التي رءاها فرعون أنه يولد لبني إسرائيل ولد يكون زول ملكه على يده ! فهذا ليس عليه دليل , وليس له أي ذكر سواء تصريحاً أو تلميحاً في الآية الكريمة وغيرها من الآيات الكريمة التي صورت لنا المشهد من زوايا مختلفة ولو كان هذا حقاً لقصه الله تبارك وتعالى علينا كما قص علينا رؤيا ملك مصر من قبل في زمن يوسف عليه السلام !....
ولو كان ذلك حقاً لما أبقى فرعون الطاغية الضنين على ملكه والشعب الخانع الذليل , لما أبقي على موسى عليه السلام , وهو في المهد رضيع ! وأين هذه الرؤيا منه وهو يقوم بتربية غلام ذكر من بني إسرائيل !!, هل نسيها ؟!! أم فقد الذاكرة وهو زميم ؟!!
والآية الكريمة تصف هذه الملحمة التي ظللت بني إسرائيل ووسعتهم كباراً وصغاراً, وصفاً حركياً بليغاً مؤثراً للمشاهد ـ وهو المتدبر لعمق المشاهد المصورة بعين البصيرة ـ وللسامع الذى أنصت للذكر وأقبل بقلبه عليه,
إن القرآن الكريم له عمق حركي مصور على شاشة كونية عملاقة , ليس للتاريخ وقصصه فحسب ـ وإن كان هذا الجانب أكثر ظهوراً وأشد وضوحاً ـ ولكن أيضاً لكل موضوعات القرآن الكريم ومحاوره, خصوصاً مشاهد يوم القيامة , كما نجد عرضاً مصوراً لأعماق النفس البشرية وأغوارها ـ وهذه المشاهد أعمقها وأبعدها عن عامة الناظرين في القرآن الكريم, إلا خواص المتدبرين , نسأل الله تبارك وتعالى من فضله العظيم ...والعرض المصور في الآية الكريمة التي معنا نرى فيه أعمال السخرة التي فرضت على شعب إسرائيل, نجدها ونرها أعمال شاقة ومريرة تم سوقهم أليها سوقاً عنيفاً مهيناً بشوكة السلطة الغاشمة وتعاون الشعب الخانع من القبط المصريين ـ وهذا ديدنهم منذ ذلك الحين ـ والعمل المستمر بلا أي مقابل مادي أو حتي معنوي, لا غذاء يكفي الأجساد المهزولة من هذا العناء, ولا علاج لأمراضهم المستعصية نتيجة الظروف القاسية التي أحاطت بهم , ترحيل قسري لأماكن العمل المصطنعة خصيصاً لشعب إسرائيل وشتات عن الأهل والأولاد, ... ورغم كل ذلك لما لم يغني هذا عنهم شيئاً في إفناء بني إسرائيل والخلاص منهم بالسرعة المطلوبة , شرعوا في توسيع رقعة العذاب وإدخال فئات أخري في حمئة الحقد اللعين, فتوصلوا إلى أن أسرع طريقة لإفناء هؤلاء المستضعفين هو عبر قطع نسلهم تماماً بلا رحمة , وكأنهم في حمئة حقدهم المجنون صاروا وحوشاً قدت قلوبهم من حديد ! فهم يذبحون أبناء شعب إسرائيل ـ بنين وبنات ـ كما يذبحون الخراف والشياه , وهذه جرائم يندى لها جبين البشرية , ووصمة عار لكل من عاصر وحضر أو حتي سمع بهذه المثلات ولم يتبرأ ويخجل منها ,
التعليقات