عندما تطلّعت في الملف الطبّي، أخبرتُ صديقي أنّها حالة لن نراها كثيرًا، استرقتُ النظر من خلف ستارة الردهة، وجدتُ مراهقًا بعمر العشرين يتناول الفطور مع أهله، اتفقت وصاحبي أن نراوح حول هذه المنطقة حتّى ينتهون، وفي هذه الأثناء حاولتُ حراسة غرفة الردهة لئلا يدخلها طالبٌ متطفل آخر، كانت الحالة نادرة، ولا يراها كثير من طلّاب الطب في دراستهم.

بعد أن أكملوا، دخلنا على المريض وأهله، فوجدته فتى هزيلًا، عمره عشرون لكنّك إن رأيته قُلت عشرة، وجدت والديه يجلسون أرضًا، فحاولتُ أن أوجّه اسئلة التاريخ المرضي لهم، وبعد أوّل سؤال، أحسستني أنّي باردٌ وبعيد، فافترشتُ الأرض معهم.

التليّف الكيسي Cystic fibrosis هي حالة يُولد بها بعض الأطفال، وهي نادرة، يكون لهؤلاء خللًا جينيًا يؤثّر على الافرازات المخاطية والعرقية، فتكون لزجة وسميكة، وهذه الافرازات عادة ما تكون مُزلّقة، تساعد على طرد الغبار وبعض الأمراض، ولكنّها عندما تكون ثقيلة ولزجة أكثر من اللازم، فإنّها تصبح عبئًا على الجسم، وتتجمّع في الممرات والقنوات، في الرئتين والبنكرياس فتسبّب الالتهابات في هذه المناطق، وتتجمع في الأمعاء، ممّا تؤثر على امتصاص المواد الهضمية، فتؤثّر على النمو، فيبدو ابن العشرين وكأنّه بنصف عمره.

هذه الحالة مُزمنة وتبقى طوال العمر، وليس فيها شفاء، لكنّ الأدوية تحاول أن تهوِّن من أعراض المريض.

كان المريض الذي أحاول أخذ التاريخ المرضي منه مُتعبًا، قال لي والده أنّه يعاني من التهابات تنفسية، وهم في المستشفى منذ أيّام، وهذه دأبهم في كل شهر.

ولأنَّ المرض وراثي، سألتُ عمّا لو كان هناك فرد من أفراد العائلة مصاب بمثل هذا المرض، فأخبرني والده بأنّ اخاه قد توفّى قبل سنين وهو أبن 24 سنة بنفس المرض، لا أدري كيف تفوّه بهذه العبارة أمام المريض، لكنّه عرف ما خطر في بالي فاستدرك: أتظنّه نسي فذكّرته؟ إنِّه يسترجع موت أخيه ليل نهار، ويجعل من ذلك سببًا في زيادة شقاءه.

هنا نسيتُ كلَّ ما أتيت لأجله من بقيّة التاريخ المرضي والفحص السريري، وأخذتُ دور عُوّاد المرضى، وأخذت أشرح له أنّ الكثير من المرضى يعيشون لعمر طويل، وليس شرطًا أن يصيبه ما أصاب أخيه، المهمّ أن يعالجوا الالتهابات في وقت مبكّر، ولا يتململوا من المستشفى، فمعظم من يموت بسبب المرض يكون بسبب استفحال الالتهابات بسبب الافرازات الداخلية الثقيلة.

لا أدري من أين قلت لهم أنّه يمكن أن يعيش حتّى الخمسين وأكثر، عندما عُدتُ بحثت عن الأمر، فوجدتهم يُعمّرون بمعدل 44 سنة، هذا في الدول المتطوّرة والمراكز الحديثة، لقد كان الفتى يعاني من التهابات تنفسية بسبب الزائفة الزنجارية Pseudomonas، وهذه بكتريا تقاوم الكثير من المضادّات الحيوية، صراحة ما كنتُ اتوقّع أنّه سيعمر أكثر من أخيه، لكنِّي كنت أطبّق نصيحة جدَّتي حين كانت تُشير للسانها وتقول بلهجتها الدارجة: "وأيُّ شيء يَنقصُ هذا اللسان؟!"

لا أعتقد أنّ نصيحة جدّتي ستكون مفيدة حينما أكون طبيبًا ممارسًا، فقد اشتركت ببعض دورات مهارات التواصل، وكان فيها أن لا تؤمِّل مريضًا بشيء، صف له الأمر وأخبره بالخيارات الطبيّة المتوفرة، لعلّه أمر يحمي الأطباء من الوقوع في وعود ومسائلة المرضى، لكنِّي ما دمتُ طالبًا سأطبّق نصيحة الشاعر

وقولا له إن جئتماه لعلِّة ... وكم من طبيبٍ قبله قد توهّما
حنانيك فالأرواح أولى طِبابةً .. كذلك كان الهُونُ في الناس أحزما

أخبرتهم أنّي أعرف منتديات لأناس يقصّون قصص حياتهم اليومية مع هذا المرض، ولم أكن أعرفها لكنِّي وثقتُ أن في reddit كل شيء، وحثثتهم على الانضمام له، وعندما عدتُ تحقّقتُ انّ الصفحة موجودة، وإنّهم يقصّون قصص مرضهم فعلًا

ارتاح لي والداه، فألقى أبوه نكتة: سيتحسن عندما يتزوّج! وأنّ الطبيبة دلّتهم على واحدة بمثل هذا المرض، فابتسمتُ لك وشجّعتهم على ذلك بلهجة ماكرة، وكتمتُ عنهم ما أعرفه عن بقية أعراض التليّف الكيسي، فتلك الافرازات الثقيلة تُبطئ من حركة كل شيء، حتّى النطف، وأكثر مرضى هذا المرض عقيمون.

بعد ربع ساعة من الحديث، وهذه أطول فترة أبقى فيها برفقة مريض، شكرتهم على تعاونهم، وشكروني على تفاؤلي، والحقُّ أنّي لم آخذ من المريض شيئًا كثيرًا، لقد نسيتُ أن أفحصه سريريًا، كنتُ سأجد بعض العلامات في صدره، فتفيد تدريبي أكثر، كذلك لامني صديقي عندما خرجنا، إذ كان المسكين يؤمِّل أن يسمع شيئًا في صدر المريض، فتباطئ بسبب تعاطفي مع المرضى وشعر بالحرج، فقلت لعاذلي أنّ كُفَّ عن اللوم، لقد نجحنا في اختبار الانسانية، وفشلنا أطباءً، وبعضُ الشرِّ أهون من بعضِ!