تحدثت في موضوع سابق عن الحقوق المهدورة لمن يمتهن العمل الحر Freelancer بشكل عام, ولم تكن فكرتي واضحة, إن العمل الحر لا يقتصر على المنصات فهي مجرد وسيلة لتسهيل العمل, ربما لم يتم تقنين العمل الحر في بعض البلدان العربية لذا سأوضح كيف يتم الاستغلال.
لدينا ببلدي ما يسمى "المقاول الذاتي" Auto-entrepreneur وهو نظام أوروبي تم تطبيقه عندنا لتقنين العمل الحر, تذهب للبنك للحصول على بطاقة "مقاول ذاتي" وتدفع عن طريقها ضرائب بسيطة للغاية وتدفع تأمينك, وتقدم الفواتير لعملائك وكأنك شركة لكن بشخص واحد وحيد... رائع أليس كذلك؟
لدي شركة احتجت لتوظيف بعض الأفراد, ولكن الدولة تفرض أن أدفع لهم الحد الأدنى من الأجور (300 دولار كحد أدنى) وتأمين صحي وتقاعد, وعطل سنوية ومرضية وولادة مدفوعة الأجر, وثمان ساعات عمل, وفوق هذا لا أستطيع التخلص من أي موظف إن لم يوافق مزاجي لأنه سيجرني للمحاكم... لذا أحضرت سيدة وقلت لها اذهبي يا امرأة للبنك وسجلي على أنك "مقاولة ذاتية" وستشتغلين مقابل 250 دولار شهريا, وستقدمين لي فواتير أجرتك لأدخلها في حسابات الشركة ! وهكذا هي من ستدفع ضرائب أجرتها وتأمينها بنفسها ولست أنا, كما أنني خفضت الأجر ...لما أرادت عطلة ولادة تخلصت منها, فأنا لست والد طفلها كي أدفع لها النفقة وهي بالبيت لا تشتغل.
فعلت ذات الأمر مع سائق شاحنة نقل بضائع حر, رميت له 200 دولار في ظرف, لما احتج قلت له إذا لم يعجبك العمل يمكنك المغادرة لأن هناك غيرك كثر يرغبون بالعمل, ولما هددني بتقديم شكوى ضدي, قلت له: أعلى ما في شاحناتك اركبها !
ستقول لي هم الذين قبلوا هذا الوضع منذ البداية, سأقول لك نعم ! قبل تقنين العمل الحر, كان من الممكن أن يقدموا شكوى ضدي فأكون مضطرا على دفع تعويض على الضرر لأنه ما من إطار قانوني موجود إلا إطار الوظيفة ويجب أن أحترم بنوذها, لكن اليوم بفضل تقنين العمل الحر فإنه يمكنني استغفال المبتدئين واستعباد المحتاجين بكل أريحية ولله الحمد.
لقد تفطنت الدولة لهذه المشكلة فحاولت إيجاد حل لها فخرجت العقول النيرة في الحكومة بحل أسطوري, وهو أن يرفعوا الضرائب على العمال الأحرار "المقاولون الذاتيون". كي يضطروا لمطالبة المشغلين بأجرة أكبر أو بالتوظيف, لذا ينطبق على الحكومة المثل القائل: "لم يستطع على الحمار تشطر على البردعة", ولا تفهم من كلامي أنني حمار ولكن هكذا هو المثل الشعبي.
المهم أنني طورت من مهاراتي وصرت عابرا للقارات, فقد جربت استغلال المستقلين من بلدان أخرى بمنصات الوساطة وقد نجح الأمر معي: إدارة شهر كامل مقابل 150دولار فقط! لقد صرت لا أستغني عنهم, العديد من الوظائف التي كانت تكلفني بالماضي 500 دولار صارت اليوم ب50 دولار.
هذه قصة متخيلة للشرح, لم أستغل أحدا! ولكن هذا السيناريو يحصل فعلا على أرض الواقع, وتقوم بعض الشركات لدينا بتوظيف المستقلين بدل الموظفين للتنصل من واجباتها, تستقطب الشباب وتطلب منهم إحضار بطاقات "مقاول ذاتي" من البنوك لاستئناف العمل, وبعض الشركات صارت تستغل الناس حتى عبر الحدود بمنصات الوساطة لأنهم يخضعون للعرض والطلب وليس لقوانين الأجور.
التعليقات