بعد أن عرفت منطقة عملي وتسلمت زمام الأمور، شعرت بأهمية وضع خطة تساعدني على إنجاح عملية الإحصاء دون توتر أو صدامات. كنت أبحث عن وسيلة تجعلني أتعامل مع الجميع بسلاسة، وأجمع البيانات بأقل مقاومة ممكنة.

في أول يوم، قررت أن أبدأ بجولة خفيفة أستكشف فيها الأزقة والبيوت. ارتديت قميصًا أحمر داكنًا يتماشى مع قبعة الإحصاء الرسمية، علقت شارة الإحصاء حول عنقي، وأخذت حقيبتي والطابليت. كنت أشبه بمحقق ميداني أكثر من كوني رجل إحصاء، كأنني جندي مستعد لمعركة يومية مع الوقت والتحديات. بدأت أتجول في الأزقة الواحدة تلو الأخرى، أراقب التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو عادية ولكنها تحمل مفتاح فهم الناس. رائحة الخبز الطازج تعبق في الهواء، وأصوات الأطفال تلعب بجانب الأبواب المهترئة. كنت أراقب كل شيء بعين متفحصة، بحثًا عن مفتاح يساعدني على كسر الجليد مع أهل المنطقة.

خلال جولتي، لفت انتباهي تجمع صغير عند محل صغير بواجهة بسيطة. كان صاحبه، رجل خمسيني ممتلئ الوجه، يرتدي بدلة عسكرية قديمة وكأنه يعلن عن حضوره المهيب. كان يتحدث بثقة مع مجموعة من الرجال، وكأنه القاضي والمحامي والخبير في آنٍ واحد. توقفت لوهلة أراقب، بدا لي أنه الرجل الذي يعرف الجميع والجميع يعرفه.

سألت أحد الحاضرين الواقفين بجانبي:

"من هذا الرجل؟ يبدو أنه شخصية مهمة هنا."

أجاب مبتسمًا: "هذا سي السمسار. لا يُسأل عن شيء في المنطقة إلا لديه الجواب. هو شريان الحياة هنا."

بدافع الفضول، اقتربت منه وألقيت التحية. رحب بي بحرارة قائلاً: "أهلا سي الأستاذ! واش شي مهمة جديدة عندنا؟" شرحت له مهمتي في الإحصاء، ولم أكن أتصور أنني فتحت الباب لمصدر لا ينضب من المعلومات.

بصوته العميق ونظراته الواثقة، بدأ يعطيني معلومات دقيقة عن المنطقة وسكانها:

"هذاك فلان، كيجي مع الظهر، كيرتاح شوية وكيمشي مع الربعة."

"وهديك الدار خاوية، ماليها في فرنسا وما كيجيو غير الصيف للصيف."

كان سي السمسار أشبه بخارطة حية، يساعدني دون تردد أو طلب أي مقابل. يقدم لي المفاتيح التي أحتاجها لإتمام عملي بسلاسة. ومع مرور الأيام، أصبح ركنه هو وجهتي الأولى كلما استعصت علي مهمة، لأجد الحل بسهولة. بل حتى الجالسين بجانبه بدؤوا بمساعدتي وكأنهم تدربوا على يديه. كنت أضحك أحيانًا عندما يقول لي أحدهم: "آ سي الإحصائي، عندك شي مشكل؟ واش خاصك شي معلومة على شي حد؟ قولو لينا!"

ذات يوم، وقفت أمام باب منزل كبير مهجور. طرقت الباب مرارًا بلا إجابة. عدت إلى سي السمسار أطلب المشورة، فقال لي بنبرة واثقة: "مالين الدار ما كيجيو غير في آخر الشهر، سير لحدا ديك الدار الصفراء راهوم يعطيوك التفاصيل."

لم أنسَ أيضًا الموقف الطريف مع الكلب الضخم الذي كان يرعبني كلما اقتربت من أحد البيوت. في كل مرة أسمع نباحه، كنت أتراجع خطوة وأبحث عن مخرج، لكن سي السمسار، بابتسامته المعتادة، قال لي يومًا: "سير يا ولدي، داك الكلب ما يعض غير الناس اللي ما قارينش. راك أستاذ!".

إلى جانب "سي السمسار"، كنت بحاجة لطريقة تجعلني أكثر قربًا من السكان بشكل يومي. هنا جاءت فكرة الصلاة في المنطقة. كان هناك مسجدان في الحي؛ الأول في الجزء السفلي، والآخر في الجزء العلوي. قررت أن أصلي العصر يوميًا في المسجد الأقرب لمكان عملي في ذلك اليوم، كنت أصلي العصر مرتديًا علامات الإحصاء بوضوح، مما جعل الناس ينتبهون لي ويتذكرونني.

كانت هذه الخطوة تحمل رسالة ضمنية للسكان: "أنا هنا، ولست غريبًا عنكم." بعد الصلاة، كنت أخرج لأجد بعضهم ينتظرني على باب المسجد، يستفسرون أو يعرضون المساعدة أو حتى يدعونني لاحتساء الشاي معهم. كانت لحظات بسيطة لكنها مليئة بالثقة والقبول، مما جعل عملي أكثر سهولة وأقل توترًا.

مع الأيام، أدركت أن نجاح عملي لم يكن فقط بسبب التخطيط أو الأدوات، بل بفضل بناء العلاقات. لقد جعلني "سي السمسار" أدرك أن في كل مجتمع هناك أشخاص يمثلون مفاتيح لفهمه. هؤلاء الأشخاص ليسوا دائمًا في المناصب أو تحت الأضواء، لكنهم يحملون في جعبتهم قصصًا وأسرارًا يمكن أن تسهل أصعب المهام.

انتهت أيام الإحصاء، لكنها لم تكن مجرد عملية جمع بيانات. كانت رحلة لاكتشاف الناس، قصصهم، وأسرارهم. لقد جعلني سي السمسار والمصلون في المسجد والرجل المسن أدرك أن العمل الميداني لا يتعلق فقط بالأرقام، بل هو فن بناء العلاقات وفهم الروح الإنسانية.

"سي السمسار" لم يكن مجرد مساعد في عملي، بل كان المفتاح الذي فتح لي أبواب الثقة والمودة في المنطقة. هذه التجربة ستبقى في ذاكرتي، ليس فقط كمهمة مهنية، بل كفصل غني بالتجارب الإنسانية العميقة.