"سلمى... الوالد قد توفي."
قالها خالي بصوت خافت، كأن الكلمات كانت ثقيلة جدًا، كأنها تعثرت داخله قبل أن تخرج. كنت أسمعه، لكنني لم أفهم. لم أستوعب. لم أصدق. كيف يموت أبي وأنا لا أزال هنا؟ كيف يأخذه الموت ويتركني؟ كنا معًا. كنا في نفس المكان، في نفس السيارة، على نفس الطريق. فلماذا هو؟ لماذا ليس أنا؟
كل شيء حدث بسرعة، أسرع مما يجب، أسرع مما يمكن للحياة أن تأخذه دون سابق إنذار. أتذكر صوت المطر وهو يرتطم بزجاج السيارة، صوت المحرك، ضوء المصابيح الأمامية الذي يخترق الظلام، وصوت أبي وهو يكلمني بصوته الدافئ، بصوته الذي لم أعد أسمعه أبدًا.
كان يقود بهدوء، كما يفعل دائمًا، يحكي لي عن شيء ما، عن الحياة، عن المستقبل، عن الأمل. كان دائمًا يكرر لي أن العالم لا يتوقف عند شيء، أن الحياة تستمر، أنني يجب أن أكون قوية. لكنه لم يخبرني ماذا أفعل إن توقف عالمي عنده، إن توقفت حياتي بمغادرته، إن لم أعد قوية بعده.
ثم جاء الضوء. ضوء قوي، مفاجئ، غاضب. سيارة مندفعة نحونا، صرخة أبي وهو يحاول السيطرة على المقود، يده تمتد أمامي ليحميني، جاعلا جسده درعًا بيني وبين الموت. ثم التصادم. الصوت المدوي.. الفراغ.
استيقظت في المستشفى، وكنت أتمنى ألا أستيقظ أبدًا. كان جسدي ثقيلاً، رأسي يطن، وأشعر بألم في كل مكان. لكن الألم الحقيقي لم يكن في جسدي، بل في صدري، حيث سكن الفراغ. رأيت خالي، رأيت أمي، رأيت الدموع في أعينهم، لكني لم أرَ أبي. انتظرت أن أراه، انتظرت أن يطل من باب الغرفة، أن يمسك بيدي كما كان يفعل دائمًا، أن يقول لي إنه هنا، إنه بخير، وانه لن يتركني. لكن بدلًا من ذلك، قال خالي جملته القاتلة: *"سلمى...باك مات"
لا أعرف كم من الوقت مر بعد ذلك. لم أصرخ، لم أبكِ، لم أفعل أي شيء. كنت أنظر إليهم كأنهم غرباء يتحدثون بلغة لا أفهمها. كيف يكون أبي قد توفي؟ لقد كان معي. لقد كان هنا.
مرت الأيام، ثم الشهور، ثم عشر سنوات. ولم أزل هناك، في تلك اللحظة. ما زلت في تلك السيارة، في تلك الصدمة، في ذلك الفراغ. تغير كل شيء من حولي، لكنني لم أتغير. فقدت شهيتي للحياة. فقدت الرغبة في الحديث، في الضحك، في الأمل.
أضحك أحيانًا، لكن ليس لأنني سعيدة. بل لأني أشفق على نفسي. أشفق على من حولي الذين ينتظرون مني أن أكون طبيعية، أن أعود كما كنت. أضحك فقط كي أنسى، أو لأمنحهم وهم أنني بخير، حتى لا ينهكهم حزني أكثر مما فعل. لكن في الحقيقة لم أعد أنا، ولم أعد أعرف إن كنت سأكونها مجددًا.
كان أبي عالمي، وعندما مات، لم يبقَ لي عالم. لم أعد أذهب للأماكن التي كنا نذهب إليها معًا، لم أعد أستطيع سماع صوته في تسجيلات قديمة لأن صدري ينفجر بالبكاء، لم أعد أستطيع حتى النظر إلى صوري معه دون أن أشعر أنني خذلته.
أخاف الآن من كل شيء. أخاف أن أفقد أحدًا آخر. أخاف أن أحب شخصًا آخر، فيأخذه القدر كما أخذهم. أحببت أبي، وأحببت أخي، وأحببت أختي، لكنهم تركوني جميعًا. الموت لا يأخذ فقط من نحب، بل يأخذ قدرتنا على الحب أيضًا، يحولنا إلى أشخاص يخشون التعلق، يخشون الارتباط، لأنهم يعرفون أن كل شيء يمكن أن ينتهي في لحظة، بضوء مفاجئ، بسيارة مندفعه، برسالة هاتف، بمكالمة تأتي في منتصف الليل وتغير حياتنا للأبد.
في بعض الليالي، أغمض عيني وأتمنى لو أنني لم أنجُ. لو أنني لم أفتح عيني في المستشفى، لو أنني لم أعد إلى هذا العالم بدونه. لأن هذا ليس عالمًا أريده، ولا حياة يمكنني تحملها.
لكن الله أراد لي الحياة، وإن لم أرد ذلك. وأعتقد أن أبي أيضًا أراد ذلك. لو كان له أن يختار، لاختار لي أن أعيش، أن أنهض، أن أكون كما كان يراني دائمًا: قوية. وها أنا، رغم كل شيء، أعيش اليوم لأحقق حلمه، لأنجح باسمه، ولأجعله فخورًا بي، حتى وهو في قبره. أعلم أنه يعلم حالي، وأعلم أنه ينتظرني أن أبتسم يومًا، لا لأني نسيت، بل لأني تذكرت أن الحب لا يموت، وأن الأبوة تستمر حتى بعد الفراق.
أعيش الآن بين الماضي والحاضر، بين ذكراه وظلي. أحيانًا أفكر: هل سأتمكن يومًا من المضي قدمًا؟ أم أنني سأبقى عالقة هنا، في عالم رمادي، حيث يعيش **بويا**—هكذا كنت أناديه—حيث يعيش أبي في كل شيء… إلا الواقع؟
التعليقات