هذا الطفل هو أنا،وحيداً في الغرفة،مستلقياً على بطني أمام كراس الرسم، تلتمع أعيني ببياض الصفحة التي أعزم أن أرسم عليها، أرسم مجدداً اللوحة التجريدية ذاتها، جبالاً كحروف M متلاحمة طيوراً على شكل رقم ٤، و شمساً ذات أشواك، شجرةً لها جذع مستطيل يعلوه مثلث، ثم نهراً يتعرج، بعد أن أنتهي من أشكالي الهندسية تأتي المرحلة المفضلة لدي و هي تلوينها بالألوان الشمعية المتناثرة بفوضوية أمامي، كمثل العديد من أبناء المدن لم أحظَ بزيارة لأي جبل أو نهر، بل حسبي من الطبيعة هي تلكم الحدائق المنظمة و المشذبة باعتناء التي كنا نزورها في كل عطلة،و بعد أن تتوالى الأعوام و الأحداث و الفصول، تقضي حكمة القدر أن أنفى بعيداً عن كل ما ألفته عيني من حياة المدينة و أعيش في غابة جبلية لأكثر من سنتين.

لا أدري إن كان السبب هو في حساسيتي الزائدة لكن صدقوني أيها السادة ما من رواية و لا شعر ٍو لا نثرٍ بإمكانه أن يبعث في أذهانكم شيئاً عن تجربة وقوفك وحيداً بين مئات أشجار الصنوبر السامقة، فعلى الرغم من السكون الظاهري الذي أراه أمامي، إلا أنني و بعد دقائق من تيهي في هذا الحرم الأخضر، بدأ دماغي المدني بالتوليف لاستقبال هذا الكم الهائل من الإشارات الحسية التي ينبض بها كل عنصرٍ في الغابة،إن هدير تلك الإشارات كان من الغزارة لأن يجمد أفكار الماضي و هواجس المستقبل، فأنا أرى أن هذه الشجرة التي تبلغ من العمر أضعاف عمري لم تكن ساكنة، يتسلق نظري عبر جذعها السمين عبر كل تلك الحراشف اليابسة و الأغصان المنبثقة لأرى أنها تتمايل مع النسيم، ليست هي فقط، بل كل شجرة هنا تتراقص مع أدق نسمة يحملها الهواء، فكأنها حشود من النساك يؤدون طقساً خاشعاً من العبادة، تخطو أقدامي بخفة على سجاد نسج من أوراق الصنوبر الإبرية فرش به غالب أرض الغابة، ترتفع إبقاعات الحياة كلما توغلت في الغابة أكثر، و تبدأ أعيني باعتياد تدرجات اللون الأخضر و الرمادي و البني، رغم محدودية التنوع اللوني إلا أن بصري يستقبل الأشكال و الألوان كوليمة يفترسها لا يكاد منها يشبع، تفتح الغابة لي قلبها العامر بالحيوية و البهاء فألمح سناجباً بنية تتقافز بين الأغصان، سحالٍ تلاحق بعضها فوق الجذوع اليابسة، جنادباً و فراشات، خنفساءاً تدحرج كرة من الروث في صعود سيزيفي، أتوقف عن المسير، أغمض أعيني لأدع فسحة لأنفي بالتقاط مزيداً من هذه الأرومة المكثفة من عبق الغابة، اشفط بطني و اسحب ما يتسع له صدري من الهواء الرطب، أحاول تحليل بعض الروائح في هذه الباقة العطرية المميزة، رائحة الزعتر البري، رائحة الٱس، رائحة الميرمية، رائحة اللافندر، رائحة زهر البابونج، اكليل الجبل، رائحة صمغ الصنوبر، رائحة عفونة الأرض،روائح أخرى لم أقدر على تمييزها، في غمرة انتشائي بهذا الخليط العطري يبدأ وعي بتمييز صوت رافقني منذ البداية دون أن انتبه، تسلل إلى خلفية سمعي، صوت هادئ مستمر لا ينقطع، أعتقد أنه السر في مبعث استكانة روحي، هدير نهر قريب، لم أكن أعلم أن نهراً من هنا قريب، فتصاعدت هيبة المكان في قلبي، لم أعلم كم مضى من الزمان، أو كم ذرعت من المكان و أنا اتجه إلى منبع هذا الهدير، أخذني الصوت إلى وادٍ مهيب، و تعالى هدير الماء المندفع و نقيق جوقة الضفادع، كنت قريباً من النهر كفايةً حتى يغيب عن سمعي صوت حفيف الأشجار و تغريد البلابل الذي عهدته في بداية مغامرتي، لا يعرض النهر جسده أمام العراء كما كنت أرسم في طفولتي، بل إنني هنا أراه محتجباً بستار شبه متصل من الأشواك و العليق و القصب، كنت أمشي محاذيا لهذا الستار الطبيعي المتلاحم على أمل أن أحظى بفسحة أنسلّ من خلالها إلى ضفة النهر، حتى وجدتها أخيراً إلى جانب جذع شجرة دلب مشرقي عتيقة، و من ثم دلفت إلى الجانب الٱخر، إلى حيث النهر يركض بلا روية، وجدت نفسي أمام سيل لا ينقطع من المياه العذبة،فشعرت بصفاءٍ لم أعهده في حياتي قط، أمام كل هذا الجريان الفحولي للحياة.

أحاول استرجاع هذه الصور من بئر ذاكرتي اليوم و أنا مستلقٍ على فراشي لأنها كانت من اللحظات النادرة التي أدركت بها جهلي عن مدى بهاء هذه الحياة.