مات أبي وأنا لا أزال مُّضغةً في رحم أمي، وأمام فقرها وصغر سنها الذي لم يتجاوز سبعة عشر عامًا قررت أن تتخلى عني، لكن وسائلها لم تجدِ وتمسكت بي الحياة بقوةٍ، طافت بي أمي في أنحاء البلاد باحثة عن الرزق لكن دون جدوى، وخرجت أنا إلى الدنيا بصرختها في أرضٍ فضاء في القرية الجديدة التي ارتحلت إليها، تجمع حولها أهل تلك القرية وأكرموها خير إكرام، وكأن قدرها ساقها إلى هناك حتى تجد الراحة بعد الألم, بعد ما يقرب من خمسة أعوام أكرمنا في خلالها أهل تلك القرية، أطلقوا عليَّ اسم "المبروك"، ولم أكن أدري معنى ذلك الاسم وأنا طفل لم أتجاوز الخامسة من عمري، لكن تلك الحفاوة والتكريم كانت توقع في نفسي السعادة والتفاخر، بمجرد أن تطرق يدي الصغيرة باب بيت كانت تحل عليه رحمة الله وينعم أهل ذلك البيت بالخير، لم تقتصر تلك البركة على يقظتي بل صاحبتني أيضًا في منامي، رأيت في إحدى المرات أنني اصعد مع كثير من الناس معراج وعلى حافتيه آيات منقوشة، وصلواتٍ على النبي الكريم، متبعين رجل لم أرَ منه سوى الجلباب الأبيض الذي يرتديه، كان ينشد مديحًا في وصف النبي، وأنا من ورائه أردد، قائلًا: - هذه الدنيا تزول والبقاء ليس يطولُ، أين من يمشي يقولُ كن شفيعي يا محمد. وحينما أخبرت أمي بتلك الرؤية تبسمت، وقالت لي: - هل كنت تعلم من هو الرجل ذو الجلباب الأبيض وأنت في المنام؟ - نعم يا أمي، كنت أعلم أنه..... ولم أكمل حديثي فلقد منعتني عن الإجابة، وقالت محذرة: - لا تُخبر أحدًا بما رأيت. بلغتُ الخامسة عشرة من عمري وبلغت شهرتي ذروتها، حتى وصلت أنباء ذلك الصبي المعجزة القرى المجاورة، قصدني الكثير وأصبحت أقرأ القرآن في جميع المناسبات التي تحل بالقرية، بعد سنوات وقع في قلبي الطمع وقررت أن أرتحل, كانت أمي تبكي وتتوسلني بأن لا أرحل، وقالت لي: - لا ترحل، لا تطمع في أكثر مما منحك الله إياه. - أنا لست بطامعٍ، فهناك الكثير ممن يدعون العلم بالقاهرة ويهرول إليهم الكثير من الغاوين، أما أنا فلدي الكثير والكثير من أسرار الوجود التي لا يعلمها إلا القلائل. - إن الله لم يرفع عنك حاجبًا من نوره إلا لاختبارك، لا ترحل وأكمل حياتك هنا. - لا تقلقي، عام واحد كافي كي يجعلني من المشاهير الأغنياء. - الغنى غنى الدين، احفظ ذلك السر الذي وضعه الله في قلبك ولا تبوح به… فمن يبوح بالسر تباح دماؤه. - لا تُغريني بكلماتك العذبة هذه، فكيف لدمي أن يباح؟ - ستعلم حينها، تذكر حديثي هذا يا ولدي، وعندما يباح دمك لن تجد من يُنجيك سوى التضرع والخضوع والتذلل على باب الرحمن، تشتاق لنظرةٍ واحدة منه تشفي الجرح وتعفو عنك. - لكنني تركتها وارتحلت عن القرية، وفي ربيع العمر أصبحت حياتي مثل الكمان، كلما تقدم قوسه على أوتاره سمعت أجمل الألحان وهكذا كانت سنواتي، أحببت وكرهت، سافرت وتزوجت، وجنيت من المال الكثير، ورزقني الله بالبنون ليضيفوا للحياةِ زينة أخرى غير اللهو واللعب، وكلما تقدم بي العمر تمسكتُ بالحياة وتمسكت هي الأخرى بي، لكن تحول عزف الكمان إلى ناي يعزف أحزن الألحان، لتكن تلك الألحان خلفية أيام حياتي الأخيرة في عالم اللهو قبل صحوة القلب والعقل. في لحظة من اللحظات يَأتِي ترتيب القدر؛ ليصبح أي ترتيب بشري لاغي، ولأبسط الأسباب، وبسبب شعلة واحدة من النار ذهبت زينة الحياة، حرق المال، ومات البنون، وتحول ربيع العمر إلى خريف، وذهبت تلك النعمة التي كفرت بها، ولم أستطع السباحة في نهر الحياة، أصبحت بين خيارين كل منهما أقسى من الآخر إما التكيف مع الحياة وإما اختيار الموت، ولأن الروح تخشى الموت والجسد يرفض البقاء، وقف عقلي في مفترق الطرق وذهب في اتجاه ثالث هو الحياة والموت معًا دون أن أواجه ما أخشاه في الحياة وما يفزعني من الموت، جلست لسنواتٍ على باب الله أنتظر إحسان المارة، منحت الأمل للكثير لكن لم أستطع أن أمد روحي به، اكتفيت بنظرة السعادة في وجوه من أمنحهم الأمل في الحياة، ومازالت كلمات أمي تتردد على مسامعي، أراها في نومي ويقظتي باكية على مصيري هذا، وتقول: - لذ بحمانا يا فارس، فلقد دلفت من باب الرحمة دون أن تطرقه، لكن الشيطان أغرك كما أغر أبويك، وحينما أرادك الله طردك من نعيم الدنيا وأذاقك مرها، كي تفر إليه بقلبك وعقلك، تجلس ذليلًا على باب عزه عسى أن يرفع المولى عنك حجابًا من نوره، ويصبح التخلي بداية التجلي.