تلخيص المبحث
إن المستقرئ لأكثر دراسات الباحثين عن حوكمة الشركات الخليجية يجد أن عناصرها وشواهدها قد أشادت بدور دول مجلس التعاون الخليجي في تحقيق خطط التنمية المستدامة ونشر أهدافها الرامية إلى مواجهة الفقر والفساد.
كان عدد من الدراسات السابقة قد أشار بقوة إلى أثر حوكمة الشركات الخليجية وانعكاساتها على تلبية احتياجات أفراد المجتمع وتحسين الأحوال المعيشية مع ضمان الاحتفاظ بحقوق الأجيال القادمة في حياة مشرقة وزاهرة. مع ذلك، كان لبعض الدراسات موقفها الصارم من تفشي الفساد والعنف باعتبارهما عاملين مؤثرين على سياسات ومبادرات التنمية المستدامة؛ وبخاصة التي تعنى بالحد من الفقر وحماية الأرض من بعض الممارسات الزراعية.
إن الغرض من وراء هذه الدراسة تحديد ووصف أدوات الحوكمة الرشيدة وتبيان نوعها في منطقة الخليج وتفصيل التحديات التي تواجهها مستقبلا.
قامت عدسة مفاهيم البيانات النوعية وما اشتملت عليه من مقابلات واستبيانات بتوجيه التحليل المواضيعي وتفسير المعلومات والتي تم جمعها من خلال الوثائق الأثرية وسلسلة الملاحظات الميدانية، بجانب المقابلات الشخصية مع 20 من رواد الشركات في منطقة الخليج من مختلف القطاعات والتوجهات. أدى ذلك إلى انبثاق ثلاثة موضوعات رئيسية: (أ) أهمية تحقيق متطلبات الحوكمة النشطة وشروط تلبيتها لاحتياجات المواطنين واستجابتها لقضاياهم الملحة بشكل استباقي وذلك، من خلال العمليات الإدارية وأنظمة الأداء كما أنشطة الاندماج الاجتماعي؛ (ب) تفعيل الحوكمة وصياغة وتنفيذ سياسات بعينها تنهض بمستويات المعيشة وتعقد شراكات ناجحة مع مؤسسات القطاع الخاص بغية استثمار رأس المال البشري وترقية البنية التحتية بدء من البقعة الصناعية وانتهاء بالأسواق الخدمية، مع مراعاة تجديد الأولويات الاقتصادية؛ و(ج) سيادة القانون ومساءلة الشركات أمام العامة وتأصيل المعايير الثقافية بما يتوافق مع متغايرات العصر. نأمل أن تكون الدراسة الحالية بمثابة لمحة استرشادية تستطيع دول المنطقة الإفادة منها لإحداث طفرة اجتماعية تعود على المواطنين بقدر بالغ من الرخاء وعلى مؤسسات القطاع الخاص بنصيب وفير من الكسب في ظل حوكمة رشيدة ووثيقة الصلة ببرامج التنمية المستدامة.
مقدمة الدراسة
يحظى مفهوم التنمية المستدامة بأولوية مشهودة في برامج الحكومات والمنظمات وخاصة، فيما يتعلق بالحوكمة الرشيدة (Heras-Saizarbitoria et al., 2022).
ويضم مفهوم التنمية المستدامة في داخله مجموعة من الأنشطة والتي ترتكز محاورها على النهوض بقواعد المجتمع وتعزيز رفاهيته الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية ضمن إطار مستدام محليا على جميع المستويات التنظيمية (Al-Saidi, 2021).
يتصف منهاج عمل التنمية المستدامة بأنه سياق متنامي حيث يختلف جوهره البنيوي باختلاف الإعدادات المحلية وطبيعة المجتمع السكاني. فوفقا لدراسة أجراها صادق زادة، فإن التنمية المستدامة قادرة على أن تلبي متطلبات الجيل الحالي ودعم الأجيال القادمة في مهماتها المستقبلية (Sadik-Zada et al., 2021). بناء عليه، فإن التنمية المستدامة تستند إلى جهودات العامة من الشعب مما يعني أنه يتعين على الحكومات أن تعكس إرادة الشعوب لكي يمكنها أن تجسد بنيان الاستدامة (Niftiyev, 2021). يستدعي ذلك تضافر الجهود الحكومية وتعاضدها معا لبناءسياسات الحوكمة الناضجة بما يتماشى مع ثقافات الشعوب وأفكاره الراسخة (Bellini, 2021). أفادت نتائج دراسة وصفية قام بها إيبينجة أنه في حالة افتقار الحكومات للمصداقية، فإنها تبقى عاجزة أمام تنفيذ مقاييس التنمية المستدامة مما يعيق المنظمات الأهلية عن اتخاذ خطوات جريئة تساهم في تصحيح مسارها وإحداث ازدهار باقتصادها (Eppinga et al., 2022). أظهرت الدراسة أن الحكومات التي تعاني من ضعف مصداقيتها بين أواسط مجتمعاتها سوف تكون بمنأى عن المسائلة الرسمية ومن ثم، سيصير دورها محدودا في تخفيف شدة الأزمات الاقتصادية.
وكانت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي ومنها حكومة سلطنة عمان قد استثمرت مصادر مواردها ومقتدراتها الطبيعية لتجعل من خطط التنمية المستدامة واقعا ملموسا يقر به كل مقيم وزائر على حد سواء (Alsmadi & Alzoubi, 2022). تميزت الممارسات الحكومية في دول المنطقة بكونها متمحورة حول احتياجات الشعوب ورفاهية الأفراد، جاعلة سلامة المجتمع واستقراره نصب أعينها عند تحديد مفهومها للتنمية المستدامة. فمنذ الثمانينيات، كانت السياسات الحكومية موضوعا مثيرا للنقاش إذ وضعت المنظمات الدولية تفسيرات شتى تناولت تعريف الحوكمة الرشيدة وأسس تكوينها. من بين هذه التعريفات ما تضمنه المصرف الدولي ومؤشرات الحوكمة من مدلولات وتصورات استشهدت بسلوكيات السلطة الحاكمة والإجراءات التي من خلالها يتم قياس أداء الوزارات ومساءلتها ومراقبتها؛ أضف إلى قدرات هذه الوزارات وإمكاناتها في إدارة مواردها بكفاءة وصياغة اللوائح السليمة بحيث يمكنها تدعيم المؤسسات التي تزاول أنشطتها في حدود التفاعلات الاقتصادية، بل الاجتماعية (Mikhno et al., 2021). أعطى برنامج الأمم المتحدة بعدا آخر لمفهوم الحوكمة إذ عرفها بأنها "إطار قانوني ثابت الاطراد ويسهل توقعه يحوي بنودا للمسائلة القانونية ومتابعة الشؤون الإدارية" (Ameli et al., 2022). يترتب على ذلك وجود ميثاق للتنمية البشرية يحفظ للعاملين في الشركات المتعددة حقوقهم ويوطد روابط المساءلة والمشاركة في عمليات صنع القرار.
يستوجب ذلك شيئا من الاستجابة لاحتياجات ورغبات العاملين، مع مراعاة الاهتمام بالقضاء بسرعة على الفقر وإرساء مبادئ الشمولية والإنصاف وتجاوز أية ممارسات عنصرية تقوض من فعالية الأفراد وأهليتهم المهنية (United Nations Development Program, 2023).
هذا يؤكد أهمية الحوكمة في إحداث فارق تنموي يعزز من قدرة الشركات على إقامة قواعد وتهيئة مبادئ لإدارة عملياتها والرقابة عليها، بجانب تحقيقها لمسارات الشفافية وحمايتها لحقوق المساهمين وأصحاب المصلحة من خلال توزيع الأدوار والمسؤوليات عبر وسائل محكمة تنخفض معها هوامش الخطأ. هذا يعني أنه كلما كان الأداء الحكومي ضعيفا، تفاقمت معدلات إهدار الموارد وزادت معاناة المواطنين بسبب حرمانهم من الحماية الاجتماعية (Zubari et al., 2021).
كانت إدارات الحكومات الخليجية قد سارعت في أوائل التسعينات إلى اعتماد الحوكمة كدليل إيجابي على رسوخ التنمية. دعا ذلك إلى تحسين جوانب متفرقة من هيئات القطاع العام، بما في ذلك المؤسسات الخدمية إذ وضعت الحكومات مبادئ توجيهية أوضحت سبل التفاعل السياسي داخل الأنظمة الإدارية وأقسام الموارد البشرية (Adamovic, 2022). في خلال هذه الحقبة من عمر مجلس التعاون الخليجي، استطاعت المنظمات المحلية أن تصل إلى حد أدنى من الإصلاحات (Rybalkin et al., 2021). ساعد ذلك على تطبيق مبدأ الشفافية الإدارية وتثبيت جذور المساءلة (Alarjani et al., 2021).
تجدر الإشارة إلى أن الحوكمة الرشيدة باتت تشكل جزء من سياسات الإصلاح في عدد من دول الخليج وعلى رأسها، سلطنة عمان والتي جعلت من بين أولويات رؤيتها لسنة 2040 توسعة خطط التنمية وتشخيص قضاياها الرئيسية وطرح طرق التعامل معها. كانت حكومة السلطنة قد أعلنت هذا العام عن قطعها شوطا كبيرا في تنفيذ محور الإنسان والتنمية، ومحور حوكمة الأداء المؤسسي، ومحور التنمية والاقتصاد، مؤكدة على عزمها على المضي قدما في إنفاذ جدول أعمالها المتعلق بمناهج الحوكمة داخل المنظمات الأهلية وشركات قطاع الأعمال العام (Dogaru, 2021).
كانت حكومة السلطنة قد اعتمدت مرسوما قصدت من ورائه إجراء عدد من الإصلاحات الإدارية في شتى القطاعات المدنية بحيث تظل الهيئات الرسمية في البلاد مقيدة بقوانين الحوكمة الفعالة وتابعة لضوابطها (Cehlár & Zhironkin, 2022). وقد استقرت أغلب الشركات داخل السلطنة على أركان مرجعية الحوكمة بما في ذلك مجموعة سهيل بهوان، مجموعة محسن حيدر درويش، ومجموعة تاول (Ali et al., 2022).
مع ذلك ورغم ما حققته السلطنة من مكاسب إلا أنها كانت زاخرة بالتحديات بسبب وجود آثار من تقاليد بالية أفضت إلى تهميش دور الشباب والنساء وحرمان فئات واسعة من حق التعلم والمشاركة في الحياة السياسية (Zhan & Paulino, 2021). مثال ذلك ما جاء في تقرير المرأة الصادر عن هيئة الأمم المتحدة سنة 2021 بأن أغلب الاقتصاديات الواعدة في دول مجلس التعاون الخليجي ترفض بشكل قاطع إشراك المرأة في عمليات صناعة القرار، كونهن عاجزات الفكر مقارنة بنظرائهن من الرجال (UN World's Women, 2021). أحدث ذلك موجة عاتية من الصراع بين الرجل والمرأة مما أوجد حالة من الاحتقان في أواسط الشركات الخليجية ومجتمعات القطاع المدني (Fadlelmola et al., 2022). كان لذلك أثر سالب على تفعيل مبادرات الحوكمة بسبب المخاطر التي أحاطت بطرائق تسييرها.
بجانب ذلك، فإن قضايا الأزمات الاقتصادية وما تبعته من معضلات إدارية قد ساهمت في إفشال الحوكمة العالمية وخاصة، مع النزاع الخليجي بين دول مجلس التعاون ودولة قطر والذي امتد لثلاث سنوات قطعت فيه السعودية والإمارات والبحرين علاقاتها الدولية مع الدوحة إثر اتهامها بدعم العمليات التفجيرية واحتضان جماعات محظورة (Aras & Kardash, 2021).
كان الصراع الناشئ بين هذه الدول قد انتهى مؤخرا لكنه أنشأ حلبة قتال نبت داخلها زرع بغيض زال معه الشعور المجتمعي بسياق الأمان. ألقى ذلك بظلاله السوداء على درب التنمية المستدامة مما أسفر عن تراجع حاد في استخدام الشركات الخليجية معايير المبادرة العالمية (Hosseini et al., 2021). رغم ذلك، فإنه وفق دراسة إجرائية قامت بها مؤسسة كلينفيلد جورديلر، نجحت 76% من شركات المنطقة الخليجية في تلبية شروط برامج الاستدامة العالمية وإحراز تقدم ملحوظ في إعادة تنظيم هيكلها (KPMG, 2022). أظهرت الدراسة أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي قد تمكنت بجدارة من موافقة أهداف التنمية المستدامة وتدبير تغييرات كان من شأنها تعزيز مبادئ الحوكمة الرشيدة وغرس ثقافتها في قطاعات مختلفة من الأعمال والصناعات، موصية هيئات وجمعيات الأوراق المالية بإعداد وثيقة حوكمة تدمج داخلها مجموعة من القواعد الصارمة ومعايير السلوك التي تملي على كافة الكيانات الكبرى سرعة الإفصاح عن ممارسات الاستدامة الخاصة بها. يساعد ذلك على تأصيل عناصر الشفافية المؤسسية ومساءلة الشركة أمام أصحاب المصلحة.