لستُ السيّدة زينب.
أنا فتاة،
وُلدتُ بعد قرون
من نزف الدم،
ومن لمسة طرف عباءتها.
لكن الحزن وجدني على أي حال.
عبر التراب،
عبر السماء،
عبر أفواه النائحين
الذين علّموني الأسماء.
يقولون إنّها وقعت منذ زمن بعيد،
لكن في صدري،
هي تحدث الآن.
محرّم قد أتى.
اتشح بالسواد.
دعه يتغلغل في جلدك
كحزنٍ توارثناه
عبر أجيالٍ من الرماد.
ليس شهراً،
بل هو الجرح
الذي يُفتح
في الأيام ذاتها
من كل عام.
محرّم ليس شهراً.
هو ذلك الإحساس في صدرك
حين لا تجد سوى البكاء.
ذلك الاحتراق،
ذلك الألم تحت الأضلاع
الذي يعجز الأطباء عن تسميته.
إنه احتراق العجز،
احتراق من وُلد بعد فوات الأوان.
محرّم ليس قصة،
إنه جسدك
يتذكّر شيئاً
لم يعشه عقلك.
إنه الاحتراق،
ذاك الذي يقول:
لو استطعت الرجوع،
لبذلت نفسي
كي لا يُقتل هو.
لكن لا تستطيع.
فأنت تبكي.
وتلبس السواد.
وتهمس باسمه
في أسماء أطفالك.
لأن الحداد عليه
هو السبيل الوحيد
لنبقى بشراً
في عالمٍ
رأى موته ولم يصرخ.
الآن وقت الحزن،
لا بجسدك،
بل بدموعك.
أبكي،
لأنهم قالوا لي
إن حفيد النبي ﷺ
رُفع،
رُفع رأسه
على رمح.
ليس في حلم.
ليس في رواية.
بل أمام أطفال،
أمام أخته،
أمام الريح نفسها
التي قبّلت وجه النبي ﷺ.
أبكي،
لأنهم قالوا
إن زينب رأته.
ابكِ للرضيع
الذي لم يشرب الماء قط.
علي الأصغر،
ابن ستة أشهر،
قُتل وهو يبكي
بسهمٍ أطول من ذراعه.
ابكِ للعبّاس،
ذاك الذي بلا ذراعين
لكنه صاحب وفاء لا ينتهي.
لم يسقط،
بل ارتقى،
يحمل الماء بين أسنانه
لأطفالٍ
لن يشربوا أبداً.
ابكِ للقاسم،
ذاك الذي خرج للموت
يفوح منه عطر العرس.
كان مجرد فتى.
حطّموه
حتى صار جسده تراباً،
وجمعه عمه
كما تُجمع الشظايا.
ابكِ لعلي الأكبر،
مرآة النبي ﷺ.
كان وجهه جميلاً
حتى إنّ الأعداء بكوا
قبل أن يقطعوه.
ركب إلى موته
وعطر المدينة
لا زال يفوح منه.
أبكي،
لأنني وُلدت بعيداً جداً
عن طرف حزن السيدة زينب.
بعيداً جداً
لأحجب عنها المنظر.
بعيداً جداً
لأصرخ حين سكتت السماء.
تمنيت لو كنت هناك.
تمنيت لو قطعوني،
لا أن يقطعوك.
تمنيت أن تُؤخذ ذراعي،
أن يُكسر جسدي،
أن يُرفع رأسي،
لو أنّ رأسك
استراح
على صدر النبي ﷺ.
هذا ليس سياسة.
ولا انقساماً.
ولا فتنة.
ولا حرباً.
إنه قتل.
لا أريدك أن تضرب صدرك.
أريدك أن تروي ظمأ
الناس
نيابة عنه.
هل تفهم
ماذا يعني
أن تموت عطشاناً؟
أن تسقط بجوار نهر
لا تستطيع لمسه؟
أن تحتضن طفلاً
شفاهه جافة
وأنت لا تملك
شيئاً؟
كن العبّاس.
ادخل النهر
وارجع
دون أن تشرب.
أعطِ.
أعطِ حتى تُفقد يداك.
ثم أعطِ اسمك.
لا تضرب صدرك.
أريدك أن تمسح غرورك،
أن تغسله عن وجهك
كما يُغسل الغبار قبل الصلاة،
ثم تبكي.
ابكِ من أجل عائلة النبي ﷺ،
لا كرمز،
بل كأب،
وكأخ،
وكطفل،
وكامرأة
رأت كل شيء
وما زالت واقفة.
ابكِ لأن زينب وقفت
حين سقط كل الرجال،
عمودها من حديد.
لم تصرخ.
لم تهرب.
حملت كربلاء كلها
بلا يدٍ تعينها،
ولا ظلٍ يحميها.
ابكِ للحسين،
لأنه ما نصره أحد.
لأننا أيضاً
ما كنا لننصره.
لأن الصمت ما زال
يعيش في مساجدنا،
وفي سياساتنا،
وفي خوفنا
من أن نحب
بصوتٍ عالٍ.