لطالما ارتبطت الثانوية العامة في مصر بالقلق، والضغط النفسي، والإجهاد الأسري، والجدل المجتمعي، فقد تمحورت تجربة التعليم الثانوي في مصر لعقود طويلة حول الامتحان النهائي الذي يُمتحن فيه الطالب في نهاية الصف الثالث الثانوي، وكأن ثلاث سنوات من الدراسة يتم اختزالها في بضع ساعات من الاختبارات المكثفة، يعاني فيها الطالب من تراكم غير مبرر للمقررات الدراسية وطرق تقييم عقيمة تعتمد على الحفظ والتلقين وتبتعد عن أساليب القياس الحقيقية. وما يزيد الطين بلة عشوائية مستويات التنسيق الجامعي التي لاتتوافق مع متطلبات سوق العمل ولاتراعي قدرات وميول الطلاب وقدراتهم الشخصية.
لذا، كان لزاماً الخروج من نظام الثانوية العامة التقليدي بعد أن أثبت عدم قدرته على تلبية متطلبات العصر، وإيجاد بدائل أكثر مرونة وتنوعًا، تُراعي الفروق الفردية وتُركز على التخصص المبكر والتقييم المستمر. فالإصلاح الجذري لهذا النظام لم يعد خيارًا بل ضرورة وطنية، لضمان تعليم يُخرج طلابًا قادرين على المنافسة محليًا وعالميًا، ومجهزين بمهارات الحياة وسوق العمل.
وقد كان نظام البكالوريا المصرية الجديد Baccalaureate Certificate)) هو البديل الأنسب – على حد زعم واضعيه - كونه نظام تعليمي حديث يهدف إلى تحسين تجربة التعلم من خلال تقديم مسارات تخصصية تسمح للطلاب باختيار مجالات دراسية تتناسب مع اهتماماتهم ومستقبلهم المهني بدلاً من نظام التشعيب التقليدي بين "علمي" و"أدبي".
وفي هذا التحليل نحاول تسليط الضوء على هذا النظام الجديد وعرض أبرز مميزاته وأهم التحديات التي تواجه تطبيقه، من وجهة نظر شخصية محايدة استناداً إلى متابعات الكاتب لرد فعل بعض الطلاب وأولياء الأمور وصانعي السياسات التربوية والتفاعل الإعلامي على مواقع التواصل الاجتماعي، مع التنويه بأن هذا التحليل مجرد وجهة نظر شخصية تقبل الرد والتعديل.
أولاً: نظام الدراسة في البكالوريا المصرية
بشكل مبسط يعتمد نظام البكالوريا المصرية في الدراسة على مايلي:
1. إلغاء التشعيب (علمى ورياضة وأدبي)، واستبداله بنظام المسارات.
2. يتوفر أربعة مسارات، يختار منهم الطالب مساراً واحداً فقط ابتداءً من الصف الثاني الثانوي.
3. تشمل هذه المسارات (الطب وعلوم الحياة، الهندسة وعلوم الحاسب، الأعمال، والآداب والفنون)
4. يدرس الطالب في الصف الأول الثانوي سبعة مواد أساسية تضاف للمجموع وهي (اللغة العربية، والتربية الإسلامية، واللغة الإنجليزية، والتاريخ، والعلوم المتكاملة، والرياضيات، والفلسفة والمنطق) بالإضافة إلى مادتين إضافيتين لاتضافا للمجموع وهما (اللغة الفرنسية والبرمجة).
5. يدرس الطالب في الصف الثاني الثانوي أربعة مواد فقط وهي (اللغة العربية، والتاريخ، واللغة الإنجليزية، ومادة من المسار الذي يختاره).
6. يدرس الطالب في الصف الثالث الثانوي ثلاثة مواد فقط وهي (التربية الإسلامية، ومادتين من المسار الذي يختاره).
7. يتم تقسيم المجموع الكلي للطالب على عامين وهما الصف الثاني الثانوي والصف الثالث الثانوي
8. يتقدم الطالب للامتحان مجاناً لأول مرة ويحق للطالب التحسين (إعادة الاختبار) بشرط دفع مبلغ مالي قدره (500 جنيه مصري).
ثانياً: المميزات المتوقعة لنظام البكالوريا المصرية
يرى مناصرو نظام البكالوريا المصرية أنه يشكل خطوة طموحة نحو إصلاح التعليم الثانوي في مصر، ويمثل نقلة نوعية من التعليم القائم على الحفظ إلى تعليم أكثر عمقًا ومرونة واستدامة، وفقاً للميزات التالية:
1. تقليل عدد المواد الدراسية وتخفيض العبء المعرفي، مما يتيح للطلاب التركيز على التخصصات التي تتوافق مع ميولهم وقدراتهم، وتقليل الضغط النفسي، وتعزيز الفهم بدلاً من الحفظ، وزيادة دافعية الطالب نحو التعلم.
2. التخصص المبكر، إذ يُمكن للطالب منذ الصف الثاني الثانوي اختيار مسار يناسب ميوله، سواء في الطب، أو الهندسة، أو الفنون، أو الأعمال، مما يوفر بناء مسار أكاديمي ومهني أكثر وضوحًا وفاعلية، ويُنمّي شعور الطلاب بالانتماء الحقيقي لتخصصهم.
3. فرص التحسين الأكاديمي، إذ يُتاح للطالب خوض الامتحان أكثر من مرة في كل مادة، ويتم احتساب الدرجة الأعلى، مما يزيل عبء الفرصة الواحدة، ويمنح الطالب حافزًا دائمًا للتطوير دون الخوف من الفشل.
4. الحد من ظاهرة الدروس الخصوصية، فتقليل المواد الدراسية وإعادة تنظيمها وتعدد فرص الدخول للإمتحان يمنح الطالب ثقة في النفس ويجعله يتخلص من الخوف والتوتر اللذان يدفعانه إلى اللجوء للدروس الخصوصية التي كان ينظر إليها في نظام الثانوية العامة القديم على أنها طوق النجاة للخلاص من شبح الامتحانات النهائية.
ثالثاً: التحديات المتوقعة لنظام البكالوريا المصرية
رغم الطموحات الكبيرة التي يحملها نظام البكالوريا المصرية الجديد، إلا أن تطبيقه لا يخلو من تحديات حقيقية قد تُعيق تحقيق أهدافه على المدى القريب، ومن أبرز هذه التحديات:
1. إعداد وتأهيل المعلمين لهذا التحول، إذ يتطلب النظام الجديد تغييرًا جذريًا في فلسفة التدريس، والانتقال من التلقين إلى التفاعل والتقييم العملي، مما يستوجب تدريبًا عميقًا ومستمرًا للمعلمين، وهو أمر قد يستغرق وقتًا طويلًا ويواجه مقاومة من بعض المعلمين غير المستعدين لهذا النمط من التعليم.
2. تكافؤ الفرص في نظام التحسين، فإعادة الامتحان أكثر من مرة يتطلب مراعاة لمستويات الصعوبة للامتحانات السابقة، فضلاً عن تقليل قدرة الطلاب على توقع الأسئلة بسبب تكرارها في أكثر من محاولة.
3. مقاومة التغيير من المعلمين وأولياء الأمور ولوبي الدروس الخصوصية، فبعض المعلمين يعارض فكرة التغيير بسبب تداعيات هذا التغيير الذي يتطلب تدريباً إضافياَ ومجهوداَ مبذولاَ في التكيف مع متطلبات تطبيق النظام الجديد. بينما يعارض بعض أولياء الأمور فكرة التغيير بسبب خوفهم من المجهول، ويسيطر عليهم فكرة أن أبناءهم حقل تجارب للأنظمة الجديدة. ولاشك أن لوبي الدروس الخصوصية يعارض دائماً أي نظام جديد من شأنه إعادة المدرسة إلى دورها الريادي والقيادي، خوفاً على مصادر دخله وآلته الدعائية التي تقوم بالأساس على ادعاءات تدهور التعليم الرسمي وتراجع دور المدرسة.
كلمة أخيرة
من وجهة نظري الشخصية المتواضعة، أرى أن نظام البكالوريا المصرية الجديد يحمل في طيّاته فرصة محتملة للتغيير، لكنه يحتاج إلى بيئة داعمة ومناخ ثقافي وتربوي يتقبله، لا إلى مجرد قرارات وزارية وبيانات وتصريحات رسمية. ولا يمكن أن ننتقل من نظام قديم متوارث منذ عقود إلى نظام جديد دون إعداد تدريجي وتدريب مستمر للمُعلمين وتوعية شاملة لأولياء الأمور والطلاب. فالإصلاح لا يكون فقط بتغيير شكل النظام، بل بتغيير ثقافة التعليم ذاتها، وهذه مهمة تتطلب سنوات من العمل الجاد والتشاركي بين جميع الأطراف.
لذلك، فإن الرؤية المستقبلية التي أراها مناسبة لهذا التحول يجب أن تقوم على عدد من المحاور تشمل الإعداد التدريجي وتطبيق النظام على مراحل محدودة في البداية، مع التقييم المستمر للتجربة وتعديلها. كما يجب تأهيل المعلمين تأهيلًا حقيقيًا، ليس فقط من خلال ورش تدريب قصيرة، بل عبر برامج تطوير مهني طويلة المدى تُعيد صياغة دور المعلم في ظل النظام الجديد. ويجب ضمان العدالة وتكافؤ الفرص بين الطلاب خاصة في تحديد مستويات الاختبار عند دخوله أكثر من مرة. وأخيرًا، لا بد من تواصل فعّال مع المجتمع عبر الإعلام والمؤسسات التعليمية، لشرح أهداف النظام وفوائده ومراحله، وكسب ثقة الناس فيه.
في النهاية، لا توجد أنظمة مثالية، لكن هناك أنظمة قابلة للتطوير. ونظام البكالوريا المصرية، برغم تحدياته، يمثل فرصة تستحق التجربة، بشرط أن يُطبق بعقلانية، ويُراقب بموضوعية، ويُطوَّر باستمرار. وعلى صناع القرار أن يدركوا أن التعليم ليس مجرد نظام إداري أو حقل تجارب، بل مشروع وطني تتوقف عليه طموحات وأحلام أجيال وعائلات بأكملها، فضلاً عن مكانة مصر وسمعتها في عالم لا يعترف إلا بمن يملك المعرفة والمهارة.
التعليقات