يعتمد نظام التعليم الجامعي على وجود تخصصات مختلفة، كل منها يدرّس في كلية منفصلة. وبالرغم من الفائدة التي يجنيها الطالب من كونه ملمًا بقدر كبير من المعلومات في تخصصه؛ إلا أن هذه المعرفة تطرح إشكالات لكونها محدودة في مجال واحد دون غيره.
في الماضي، كان العلماء موسوعيين؛ فلكي تكون عالما ينبغي أن تكون لك معرفة واسعة بكل ما يجري في الكون، بداية من الحساب والأدب والشعر ومرورا بالطب والهندسة والفلك والاقتصاد والتاريخ. لكن مع تقدم الزمن وكثرة المعلومات المتاحة في عصرنا الحالي، أصبح من المستحيل على الفرد أن يكون ملما بكل علوم الدنيا، ومن هنا أصبح نظام التعليم يعتمد على التخصص في مجال دقيق، وقسمت المعرفة إلى كليات، وقسمت الكليات إلى أقسام، وأصبح التركيز على أن تكون معرفة المرء رأسية وليست أفقية؛ أي أن يركز على معرفة كل شيء عن تخصص دقيق، بدلا من معرفة القليل عن كل مجال.
لكن طريقة التعلم هذه بعيدة كل البعد عما يواجهه الإنسان في حياته؛ فدراسة مجال واحد والتركيز عليه قد تجعل من الإنسان جاهلا في أمور أخرى، وقد تجعل منه كائنا غير متوازن.
وحتى لا يكون كلامي نظريا جدا، دعوني أطرح بعض الأمثلة الواقعية. ألم يسبق لأحدكم أن رأى طبيبا متمكنا من تخصصه لكنه لا يعرف كيف يربي أبناءه لأنه لا يعرف أي شيء عن طرق التربية السليمة؟ أو مهندسا يحاول أن يستثمر أمواله فيخسرها لأنه لم يدرس الاستثمار؟ أو عالما فيزيائيا يبدي آراءه في السياسة فيظهر مدى جهله بما يدور في بلده؟
الإنسان ليس آلة مصنوعة لتؤدي مهمة محددة، بل يجب أن يكون عالما بما يحدث في العالم ومتفاعلا معه. لا أن يغلق عقله على تخصص واحد وينسى أن العالم أوسع من عقله الضيق.
عندما كنت طالبا في كلية طب الأسنان، كنت أقرأ كتبا في الفلسفة والتاريخ وعلوم الحاسب والأدب، كان زملائي ينظرون إلى كما لو أنني كنت مجنونا، وكثيرا ما يقول لي أحدهم بنبرة مشفقة: 'لو أنك قرأت كتبك الجامعية لكان أحسن لك'. ولا زلت لم أفهم كيف يكون بعض العلم أحسن من بعض.
يرى معظم الناس أن المعرفة عبارة عن مبان منفصلة، يمثل كل واحد منهم تخصصا، وعلى المرء أن يختار إحدى هذه المباني، ثم يشرع في تعليته، وكلما كان مبناه أعلى كان أكثر علما. أما أنا فأرى أن المعرفة عبارة عن مبنى واحد كبير، وكل ما تتعلمه في الحياة يحسن من هذا المبنى، فكل ما تتعلمه سواء من الكتب أو من التجارب الحياتية أو من نصائح المحيطين بك يصب في صالح تكوين هذا البناء المعرفي.
أنا لا أدعو الناس لترك الدراسة بالجامعة، لكنني أوضح كيف يمكن للتخصص الدقيق أن يضيق حدود عقل الإنسان بدلا من أن يوسعه. لهذا على كل إنسان أن يوسع مداركه، وأن يفتح أبواب عقله لأي أفكار جديدة، وأن يقرأ ولو قليلا في مجالات مختلفة، وأن يتعامل مع طبقات اجتماعية مختلفة، وأن يزور مدنا مختلفة، وأن يستمع إلى قصص الآخرين، وأن يأخذ الحكمة أنى وجدها، ولو كانت من أفواه المجانين.
التعليقات