في قارب خشبي صغير، يجلس وحيدًا في وسط صحراء المياه المالحة، يحاول أن يحرك قاربه فيها بمجدافين من الجهد والألم، ساعياً أن يصل إلى وجهة بعيدة، لا يرى منها إلا صورة مرسومة على خريطة صماء، من رسم ذاكرته وعقله، وهذا ما يجعله دائما يجهل إذا ما كانت الخريطة ترشده إلى مكان موجود فعلاً، أم أنها مجرد سراب في عقله فقط.

وبينما ينازع الأمواج، تمر بجانبه سفينة عملاقة ومن جوانبها يرى المجدفين لكل واحد منهم مجداف كبير، يساعد كل واحد منهم بقية زملائه على دفع السفينة إلى الأمام، هم يجهلون وجهة السفينة، أو زمن الرحلة، ولكنهم يفعلون ما يطلب منهم لا اكثر ولا أقل.

وحين يرمي البحار الفرد بعينه إلى أعلى السفينة، يجد القبطان يعتلي السطح ممسكاً بدفة السفينة، يوجهها إلى الجهة التي يعلم يقيناً أين هي، وهو يمتلك بوصلة مع خريطة وطاقم ملاحة، يساعده في معرفة الاتجاهات بدقة.

لذلك لا يتعب المجدفون في الأسفل أنفسهم بمعرفة الاتجاهات، والبحث عن المسار، ولهذا يتحملون عبئ التجديف لتحريك سفينة كبيرة، يمكن أن تقل عدة أفيال، يسافر على متنها الركاب والبضائع والطاقم في عرض المحيط، لأن عبئ معرفة أتجاهات السفينة مرفوع عن كواهلهم، فالقبطان وطاقمه يقومون على كل هذه التفاصيل. 

يدرك البحار المنفرد بأن الخبرة التي جمعها في رحلته تكافئ خبرة القبطان والطلقم بالمجدفين مجتمعين، فهو يقوم بكل أعمالهم مجتمعة في نفس الوقت، الملاحة، والصيد، وتحلية وتخزين المياة، والتجديف، والتوجيه، وغيرها من المهارات، التي لا يتقنها كلها إلا من يغامر وحده في عرض المحيط.

أما خبرة المجدفين فموقوفة على الجهد البدني الذي يبذلونه كل يوم، وخبرة طاقم القبطان موقوفة على المهارات العقلية التي يتنقنها كل واحد منهم.

إلا أن فرصة وصول القبطان بطاقمه إلى الميناء، أكبر من فرصة وصول البحار إلى البر بكثير، بسبب فارق السرعة، والمعرفة، والخبرة الجماعية، في العمل التعاوني بين كافة أفراد الفريق، الذي يعمل على القارب.

وهذا ما يجعل الإبحار في قارب منفرد، أصعب من الإبحار في سفينة كبيرة، من حيث كثرة المهام التي يجب على البحار أن يؤديها في نفس الوقت، وصعوبة تحريك سفينة صغيرة بسرعة كبيرة، دون شراع أو رياح. 

ورغم ذلك فليس كل الناس تقبل أن تكون ضمن فريق، حددت له تفاصيل رحلته مسبقا، فالاستكشاف والسعي وراء المجهول هو الدافع الأول، لمن يرغب في تحمل مسؤولية كل شيء، أما الذين يخافون من تلك المسؤولية الكبيرة، من الذين لا يتقنون إلا مهمة واحدة، ولا يحبون تعدد المهام، فإنهم يفضلون أن يبقوا ضمن فريق، يتحمل قائده مسؤولية إيصالهم إلى الى البر بأمان، وهم الأغلبية التي تخاف من المجهول، وتبحث عن الضمان والأمان.