العلامة الكبير ابن خلدون شخصية استثنائية غريبة عن عصرها مألوفة في عصر غيرها، حيث ظهر في غير زمنه فاختلف عن الذي قبله وعن الذين أتوا بعده، فلم ينتبه إليه أحد إلا بعد رحيله، وتلك مشكلة ارتبطت بجميع العباقرة والنوابغ، حيث لا يتم الانتباه إليهم إلا بعد زمن طويل عن رحيلهم، لأن أفكارهم ونظرياتهم يستعصى عن الجميع فهمها.
ولد عبد الرحمن ابن خلدون الملقب "بولي الدين" بتونس وقضى طفولته في منزل والده الذي كان بيت علم، ينتمي لأسرة عربية من أصول يمنية نزحت من اشبيلية تزامنا مع سقوط مدن الأندلس.
إبن خلدون تميز عن الجميع باعتداله ونبوغه وعدم تعصبه لأي اتجاه من الاتجاهات، ومن خلال هذه الميزة كان لديه تفكير إبداعي ناضج ونزيه، تفكير أكثر استقلالية وتحرر من التقليد والاتباع والتحيز؛ العلامة ابن خلدون ذو مهارة وعبقرية هائلة في فن تحليل الأحداث، والكشف عن أسباب وقوعها، فكانت بصمته المختلفة والفريدة أكثر وضوحا وبروزا و "خالف تعرف" كما يقولون وكلما اختلفت أكثر برزت أكثر أمام الآخر.
العلامة إبن خلدون استطاع أن يخرج عن الإطار الفكري الذي انحسر فيه الكثيرون من المؤرخين قبله، وكشف أساطير وأوهام صدقها الجميع، فكانت أطروحاته عبارة عن ثورة ضد الأكاذيب والخرافة في كتابة التاريخ، فحول فن التاريخ من أساطير تمتع تافهي العقول إلى وقائع وحقائق تفيد ناضجها. حتى إن المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي قال عن إبن خلدون : " إنه أدرك وتصور وأنشأ فلسفة التاريخ، واعتبر مقدمته أعظم عمل من نوعه، أبدعه أي عقل في أي زمان ومكان . "
العالم الكبير إبن خلدون من النوع الذي يرى القيمة والمعنى في الأفكار والأخبار الصحيحة، وليس في القصص والأحداث الجميلة والغرائب المسلية التي تمتع ولا تفيد؛ فيركز على الدلائل والبراهين الجيدة بحثا عما هو حقيقة، بدلا مما يشبه الحقيقة. كما استطاع باعتداله وحياده أن يكون عادلا في آرائه فيما تحدث عنه، فكانت تحاليله نابعة من الواقع وكان حياده أكثر وضوحا في كتابه " العبر " عندما تطرق إلى الجانب السلبي في سلوكيات العرب والايجابي في سلوكيات غيرهم، وأيضا الجانب الإيجابي في شخصية البدو والسيئ في شخصية أهل الحضر.
أفادنا بمعارف صحيحة واقعية وعلمنا فن القراءة، أي علمنا القراءة الناقدة وتحليل ما نقرأه وغربلته.