في ليلة من الليالي كعادتي... النوم غادر مقلتي ... أراقب السواد يلتهم فنجان قهوتي... والألغاز تلتهم ما تبقى من ذاكرتي ... السكون يخيم على المكان …أطفالي في غرفتهم نيام ...والوحشة لا يؤنسها سوى صوت القرآن...

دخلتْ فجأة …!! لا أدرى كيف أو متى …! هالة من النور تحيط بها ...جعلتني لا أقوى على رؤية ملامحها ... أروع من الروعة... وأجمل من الجمال ... لا ينقصها شيء من الكمال.

- قلت لها مستغربا: لقد فاجأتني ...!! من أنت...؟ ومن تكونين...؟

- قالت بنبرة حزينة: أنا أدعى آية ... ورقمي إحدى عشر ... أنا ابنة سورة البقرة ... نزلتُ بالمدينة المنورة ... والدي القرآن ... ومنزلي الرحمن ...

- قلت لها: يا للعجب !!! آية الله في حضرتي يكسوها الحزن والتعب ... يا ترى ما يكون السبب؟؟

- قالــت: كثر المفسدون السفهاء ... وانتشر الداء في ثوب الدواء ... وصارت المفسدة بلاء ... وأصبح الناس سواء ... لا يستجيبون النداء... فمدهم الشيطان بالسلاح... وباتوا يوقنون أن الفساد إصلاح ...

- قلــــت: ايتها الآية الكريمة ... الناس سرقتهم الدنيا اللئيمة ...يهرولون كالكلاب الجامحة وراء كل غنيمة ... باعوا دينهم بسعر زهيد ... طمعا في عيش رغيد.

- قالـت: أيها الأخ الرشيد ... كتاب الله ليس عليهم بجديد ... قلوبهم حديد ... وجهنم يومئذ تنادي هل من مزيد ... فلو تدبروا آية ... لغفرت ذنوبهم منذ البداية.

- قلــــــــت: أيتها الكريمة ...يا ابنة السورة العظيمة... هناك من يقرئك كل يوم وليلة ... أيعقل أن الناس لا تفهم معناك؟؟... وهناك من في كتاب الله يراك ... !!

- قالــــــت: سأخبرك عن قوم زمانك كيف يراني.... سأحدثك بمفهوم العصر بالمعاني:

• حين يصير خطباء المساجد بلهاء ... ويلعقون أحذية الملوك والرؤساء .... يغدقون عليهم بالمدح والثناء ... فاعلم أيها الرشيد أنهم أصبحوا مفسدين... وأضحوا سفهاء.

• وحين يتجبر العلماء بعلمهم...ويزورون التاريخ بفهمهم... سيفسدون الأجيال... ليعبدوا الدجال.

• نساءكم في الشوارع عرايا... ورجالكم يتغزلون بلحيتهم أمام المرايا... وعرضكم مهتوك في كل البقاع والزوايا.

• ساد الفساد بينكم لعصور... وغاليتم في الزواج والمهور... وصار رجالكم ذكور... وتفشت بينكم المفاسد والفجور.

• أصبح شبابكم همه المال الكثير ... وثياب من حرير ... جعلته الشهوة عبدها الأسير ... ولفتياتكم أيضا نصيب كبير ... جل همهن مضاجعة العاشق على السرير... وسماع عبارات الإطراء عبر الأثير...

• صار الحلال بالنسبة للمرأة سجن كبير... طبخ وتربية ومسؤولية وتدبير ...

فلم تجد مفرا سوى العمل ... زميل لدغدغة المشاعر ... وصديق لشراء العطور والأساور ... أما المدير ... فنصيبه كعب عال وثوب قصير.

• غادرتم سورة البقرة ... وشددتم الرحال الى السحرة ... واستعنتم بشيطان النجمة والصليب... لجلب الحبيب ... وإهانة القدر والنصيب.

• جاهرتم بالمعصية والخيانة ... واستحقرتم العقيدة والديانة .... خلعتم عن نساءكم الحجاب ... وحاربتم العفة والنقاب ... فتقطعت بكم الأسباب.

• نشرتم السموم بين بناتكم بكل المعاني ... مسلسلات علمانية وأغاني ... هذه بطلة تعاشر زوج أختها ... وهذا وسيم يخطف قلبها ... وآخر ديوث يسرق شرفها في ثواني.

• في عصركم ... الزوجة المستقيمة ... عديمة القيمة ... أرسلتم لها الشيطانة اللئيمة ... تحرضها على زوجها الغيور ... وتدعوها للتحرر والفجور ... ترسم لها باب الخلاص في الطلاق ... وأن العاشق القديم لا زال في اشتياق.

- قلت لها: يا ابنة القرآن ... لقد ضاق القلب والوجدان ... وصار الفساد في عصرنا هو العنوان ...

اقتربت مني بهدوء ... وتنهدت حتى شعرت أنفاسها تختلط بأنفاسي ... فلم أقوى على النظر في عينيها استحياء منها ... فقررت أن استجمع قواي ... وأن أٌكمل مسعاي ...

وفي لمح البصر... حلت الشجاعة وأمعنت النظر ... فإذا بقلبي ينفطر ... والدموع تنهمر ...

أجهشت بالبكاء... وأمسكت يدها في حياء ... قائلا في رجاء:

- كيف السبيل الى الخلاص ... والشيطان يحكم العالم بالنار والرصاص... ؟؟

قالت في حنان:

- لقد تحالف الجن والانسان ... واتفقا على هدم الأديان ... وتشتيت العقيدة وهدم البنيان ...

يوما ما ... سيخرج من عرينه الثعبان ... والى ذلك الحين سنلتقي بمشيئة الرحمن ...

أما الآن ... وداعا أيها الرشيد ... فقد آن لي الأوان ...

اختفت فجأة ...! كما ظهرت فجأة ...! لم أفهم عبارتها الأخيرة ... ومن يا ترى يكون الثعبان.

رحلت ابنة الكريمة ... وتركتني في هذه الدنيا اللئيمة ... شاهدا على أفظع جريمة ...

رحلت دون سابق إنذار ... مع اشراقة الفجر وضوء النهار ...

اتجهت نحو شرفتي ... تناولت المصحف والرعشة بيدي...

فتحت سورة البقرة ... وحين وصلت للآية الحادية عشر ... انهمر الدمع كالمطر ...

تذكرت لوح القدر ... وظلمة القبر ... وأهوال القيامة وعذاب سقر ... ونظرتها التي ستلازمني طول العمر ...

رفعت بصري نحو السماء ... موقنا انه ليس للدنيا بقاء ... فاليوم كانت في صحبتي آية ... ولن تكون أبدا النهاية ...فقرأتها بصوت حنون:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}