دعنا نعود إلى الوراء .. إلى الوراء كثيرا .. إلى بداية الخليقة، ونقارن بين معدل الاعمار من البدايات -كما وصل لما- والآن، والذي في إنخفاض دائم.

فكلما تقدمنا وتوغلنا في المدنية، كلما تحركنا بأقدام ثابتة لإبادتنا.

فكنا نظن أن تقدمنا سوف يحل جميع مشكلاتنا، ولكن ما لبث أن بدأنا بناء التقدم حتى حملنا الأسلحة في وجه بني جنسنا، وطورناهم إلى حد يمكن لنا أن ننسف بلدان بأكملها بضغطة زر.

فإن كان هذا يحدث قبل التمدن، فيمكن أن ننسبه إلى قلة الوعي، ولكن ماذا عن الآن؟

وما هي الإفادة من تلك الحروب؟

وما هو العائد؟

الأنانية المفرطة تلعب لعبتها في تلك النقطة، مبدأ أنا ومن بعدي الطوفان.

رغم اننا الجنس الوحيد الذي يمتاز بالعقل، وهو الوحيد القادر على الابتكار والإبداع، رغم ذلك كان ومازال يسير بقدميه بخطى ثابتة للنهاية المحتومة، فثمن المدنية غاليا جدا.

تقف المدنية في وجه البشرية مقدمة لها أنواع الرفاهية الكاملة، وذلك مقابل راحتها وصحتها في بعض الأحيان، والكثير من الأشياء المسلوبة مقابل الحضارة والتمدن.

الغريب في الأمر أننا الجنس الوحيد الذي لا يفكر إلا في مصلحة ذاته الخاصة، فما دام الخطر بعيدا عنا وعن احبابنا، فلا ضرر إن مات الجميع.

هذا لا يعني أننا لا نتأثر بموت غيرنا، بالطبع نتأثر ونحزن حزنا لحظيا، ولكن لا نفكر أبدا في تأثير قتل الغير علينا جميعا كجنس واحد، بل نرفع السلاح ونصوبه على غيرنا بلا أية رحمة، ونقتل الآلاف في حروب بأغراض واهية أو أغراض شخصية بحتة حتى إن لم نظهر ذلك متحججين بالوطنية.

ففي كثير من الحروب يظن الجنود أنهم يدافعون على تراب وطن، ولكن الحقيقة أن هناك غالبا اغراضا أخرى وراء الرداء الوطني، الذي يستفز أغلب -إن لم يكن كل- أصحاب الوطن الواحد، وذلك لشعورهم بالانتماء لمكان ولادتهم وإقامتهم، لاعتيادهم عليه، ولخوفهم على فقدانه، وفقدان من يحبوهم.

ففقدان إحساس الشخص بالأمان يدفعه للوقوف متحفزا في وجه أي أحد يتسبب في ذلك، ومحاربته وقتله إذا لزم الأمر.

وفي هذه النقطة يمكن أن نسأل:

هل التمدن كان خطئا فادحا منذ البداية؟

الحقيقة أنني لا استطيع أبدا أن اجزم أن هذا صحيحا، لأننا لا يمكن أبدا ان نغفل دور الحضارة والتمدن في الوصول للفكر والعلم الراهنين.

فالتمدن لا يمكن أبدا فصله، فهو مركب من ما هو مفيد وما يضر، وذلك يعود لوجهة نظر الإنسان نفسه لما هو أنفع له.

فدعنا نقول أن لكل شئ مقابل، فمقابل ما وصلنا له من علم وثقافة وتطور في صالح الإنسان في أحيان ما، سلبت منا حريتنا الكاملة، وأصبحت مقننة، وأصبحنا داخل دولة ملزمون بقوانينها وظروفها، وألزم الكثير منا بوظائف نعمل فيها لمصلحة غيرنا، فهنا تلعب نقطة مصلحة الجماعة دورها حتى وإن كان على حساب الفرد الشخصي، وكان هذا مقابل المال.

فالمال من وجهة نظري هو شئ صنع للمقايضة، ولا يصح أبدا أن يكون هدفا للحياة كما يضعه أغلب الناس، فلا يبلغوه، ولا يسلموا من الإحتياج المرضي له.

فعند هذه النقطة جاء وقت السؤال الثاني:

هل الحياة قبل التمدن من وجهة نظري أفضل؟

لا أستطيع أيضا أن اجزم ذلك، فلكل شئ إيجابياته وسلبياته، وثورتي على المدنية نابعة من عدة نقاط لا تناسبني فيها، وقد يتفق معي البعض في ذلك، وقد يختلف البعض الآخر، وهذا وارد لأن الأناس مختلفون، ورأيي هذا لا يجعل أبدا المدنية قبيحة بالكامل من وجهة نظري.

أنا أؤمن أن الحياة بأكملها اندماج بين النقيضين في كل شئ، فإن لم تكن على إستعداد لدفع ثمن ما تأخذه، فلن تحصل أبدا على ما تريده.