عندما يدمن الانسان شيئا يجد نفسه بلا إرادة يسير في فلكه حتى ولو كان لا يريد ذلك ، وتلك هي معضلة مدمن الكتابة فهو لا يقصد أن يكتب في موضوع بعينه بل إنه يمكن أن يكون مصاب بالملل من ذلك الموضوع ، أو تلك القضية ولكنها مرتبطة بموضوعات أخرى يحبها ويريد أن يتناولها ولكن الكارثة أن هناك كثيرين لا يفهموا ما يصبو إليه مما يجعلهم يسارعون في الحكم عليه وتشويهه ، بل ويصل الأمر أحيانا إلى محاولة النيل منه وأذيته .

قد يتناول بعض الكتاب موضوعات سياسية ليس بغرض ادعاء البطولة والشجاعة ولفت الانظار اليهم بقدر ما هي تهدف للوصول للفكرة الرئيسية التي تتحدث عن الانتخابات الأمريكية على سبيل المثال وهم يكتبون بطبيعتهم بلا خطة بحسب ما يدور في فكرهم وما يمدهم به بعض إلهامهم وهم لا يسعون للكتابة السياسية اطلاقا لأنهم غير مغرمين بها لكن القاعدة تقول أن كل شيء في العالم يرتبط بالسياسة ولا ينفصل عنها ومن البديهي جدا أن تحوي الكتابات قضايا سياسية .

من الصعب أن يخرج الابداع من انسان يحسب خطواته ويمشي على قشور البيض ، بل ان التميز والعبقرية لا تخرج الا من وجدان حر ولهذا كانت السجون السياسية مكانا لميلاد أجمل القصص ليس لأن السجن ممتع بل لأن المعتقل نفسه يمتلك داخله فكر حر بلا قيود وقد ماتت رغباته الدنيوية ولم يعد يفكر في التفاهات لأنه اختار بإرادته الحرة ذلك الطريق ، وهو خالي اليدين لا يخشى فقدان أسرة أو أموال .

ةعلى هذا فقد امتلأت السجون الاسرائيلية بمدمني الكتابة ، لقد كان أدب السجون في فلسطين هو أجمل ما صاغه لنا أدباء وشعراء الشام ولم تكن المسألة يسيرة لأن الاحتلال الصهيوني كما هو معروف عنه يتسم بالخسة ويستخدم عنصر المفاجأة حيث يكون في البداية ناعما كالثعابين ثم يلدع بشكل مفاجيء قاصدا إثارة الاضطراب والخوف في نفوس المساجين ورغم ذلك خرج الأدب الفلسطيني أروع ما يكون وسطر الشعراء الفلسطينيين أعظم القصائد .

كتب الشاعر محمود درويش أعظم القصائد داخل زنزانته خيث قال في قصيدة (’خر الليل)

وطني

يعلمني حديد سلاسلي عنف النور

ورقة المتفائل

ما كنت أعرف تحت جلودنا

ميلاد عاصفة

وعرس جداول

سدوا على النور في زنزانة

فتوهجت في القلب

شمس جداول (1)..

على جانب آحر فإن الكاتب المقدسي المبدع محمد خليل عليان ( الأسير المحرر) تحدث عن مدى التقييد وضيق المساحة المتاحة للأدب ورغم ذلك فإن الإبداعات تكون مدهشة ومثيرة عكس الكتابة خارج المعتقل تكون أقل ابداع وروعة ، وقد اعتبر محمد عليان أن التجربة الابداعية الاعتقاليةهي تجربة إبداعية وليست فردية، فالفرد يذوب في المجموع الاعتقالي والنتاج هو جماعي بامتياز، و قد يكون هناك معتقل نشيط ومثابر وآخر اقل نشاطا، أو متعلما مثقفا، وآخر أقل تعلما وثقافة ويجيد عدة لغات، وآخر لا يجيد ولكن تفاصيل التجربة هي واحدة لدى مجموع الأسرى و المعتقلين (2).

الكتابة الحقيقية لآ تسير خلف إدارات وأوامر تضع لها العناوين والقوالب التي تحددها ولا تستسلم لمحاكم التفتيش والباحثين داخل النوايا لأن الإبداع لا يعرف حدود وذلك بشرط ألا تؤدي تلك الحرية إلى إيذاء الآخرين.

فليس من حق الناس أن تحدد للكاتب موضوعاته ويصبح دمية في يد الجماهير والمؤسسات الصحفية . لأن بعض الأفكار تشبه الأمطار المنهمرة من السماء يصعب إعادتها مرة أخرى وإذا لم تخزن لن يستطيع أن يستثمرها .

من ناحية أخرى لا يجب أن يتجاهل الكاتب أذواق الناس ورغباتها لكنه لا يجب أن يرضيهم بشكل مطلق لأن العامة في أحيان كثيرة يسيروا خلف الأمواج في الطريق الخطأ. وهنا يستطيع الكاتب أن يوازن بين أفكاره وما يطلبه القراء حتى لا تأخذه نشوة الثقة الزائدة والغرور ويتحول إلى صنم يعيش في يرج عاجي بعيدا عن الناس . ويجب أن يعي الكاتب أن البشر ليسوا سواء فهم يتفاوتون في العلم والمعرفة وإيصال المعلومات ليس بالأمر اليسير فقد يحتاج إلى شهور وفي أحيان أخرى يحتاج لسنين .

المصادر :

(1) قراءة في أدب السجون , شاكر فريد حسن ، التجديد العربي ، عدد 21>4>2011، مجلة طنجة الأدبية ، قراءة عاجلة في أدب السجون.

(2) الكاتب والأسير المحرر عليان يدهش المشاركين باستعراضه أساليب الكتابة الابداعية للحركة الفلسطينية ، عيسى الشرباتي، الحياة الجديدة، الـــثـــلاثاء 16-11-2010، العدد 5404.