كلنا يتفق _ محباً للقراءة أو غير محب_ أن القراءةَ ثوبٌ من أثوابِ العزةِ والكرامةِ وصنفٌ من أصنافِ السؤددِ والتقدمِ ومن أرادَ أن يغيرَ واقعَه إلى الأحسن عليه بالقراءةِ فهي بابٌ من أبوابِ الفتوحاتِ المعرفيةِ ومفتاحٌ من مفاتيحِ العلم، إنّها الحصنُ الحصين ضدَّ أيِّ غزو ثقافي.

كتابُ الدولةِ العثمانيةِ، عواملُ النهوضِ وأسبابُ السقوطِ يتألفُ من ٥٨٤ صفحة لمؤلفه علي الصلابي. مرجعاً حقيقياً لتاريخِ الدولةِ العثمانيةِ بكلِّ تفاصيلها، يزخرُ بمعلوماتٍ عنها وعن نشأتِها وسلاطينها وتوالي حكمِ الأبطالِ عليها خلال ٦٠٠ عام. بدأت الدولةُ العثمانيةُ مزدهرةً عندما حكمها سلاطين لا يخافون في الله لومةَ لائمٍ اتخذوا كلَّ أسبابِ النصرِ ليمهِّد لهم طريقَ الفتوحاتِ ويضعوا بصمةَ شرفٍ في جبينِ الأمةِ الإسلاميةِ يترددُ ذكرها إلى يومنا هذا. كانوا يتواصون فيما بينهم على تركِ الذنوب والاستعانةِ باللهِ وطلبِ العونِ منه سبحانه وتعالى. لقد جندوا أنفسهم لخدمةِ الدينِ ورفعةِ المسلمين فنصرَهم اللهُ تعالى وأعلى شأنهم.

كتابٌ أنصحُ الجميعَ بقراءته

في كلِّ فقرةٍ من فقراتِ الكتابِ يعيشُ القارئُ مع الموقفِ وكأنما يحدثُ أمامه. يشعرُ بالفخرِ وعزةِ المسلمين عند قراءةِ تفاصيلِ الفتوحاتِ خصوصاً في فترة ازدهارِ وانتصارِ الدولةِ العثمانيةِ. يفرحُ لفرحهم ويحزنُ لحزنهم، يعيشُ الأحداثَ ماثلةً أمام عينيه، تؤثر المواقفُ على نفسيةِ القارئِ فيترقبُ النصرَ لحظةً بلحظة.

َمما جاء في الكتابِ أنه لم يقعْ بين التركِ قبل إسلامهم والمسلمين أيَّ قتالٍ بل إنهم دخلوا الإسلام صلحاً وشاركوا المسلمين في جهادِهم ضدّ الأرمن على زمنِ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه. وكأنَّ الطريقَ تمهدُ لهم لبدء رحلةِ السيادة، أرواحٌ مسالمةٌ قبلت الدين الأسلامي دون عناد أوحرب. كان ذلك مؤشرٌ من مؤشراتِ الانتصاراتِ المشرفةِ، فالنصرُ يحتاجُ لأخلاقٍ ساميةٍ ونفوسٍ هادئةٍ وديعةٍ.

كيف ينشأُ الأطفالُ في الدولةِ العثمانيةِ؟

لا شكَّ أن الأطفالَ لهم نصيبٌ من التربيةِ في ظلِّ دولةٍ عزيزةٍ ومنتصرةٍ. مما يجدرُ بالذكرِ أنَّ بعضَ القادةِ العثمانيين تولَّوا حكمَ البلادِ في عمرٍ صغيرٍ. منهم من حملَ رايةِ الحكمِ في عمرِ الستةِ عشر ربيعاً وآخر في عمر الثلاثة عشر. أولئك الذين نسميهم في زمننا هذا أطفالاً. لقد كانوا خيرَ خلفٍ لخير سلف. نشأ أطفالُهم في أجواءٍ من الجهادِ والعزة. كانت حياتُهم ذاتَ قيمةٍ لا تضيعُ فيها أوقاتهم. يسمعُ الطفلُ كلماتٍ تتغلغلُ في نفسه فتنشئه نشأةً صالحة. كانوا رجالاً تفخرُ بهم الأمة.

كيف لطفلٍ تترددُ على مسامِعه عباراتُ الجهادِ والفتوحاتِ والانتصاراتِ ودكُّ صروحَ العدوُّ _ كيف له _ أن ينشأ. إنها نشأةُ العزةِ والكرامةِ. لقد جرَّعوا أعداءَ الإسلامِ ويلاتٍ لا يمحيها التاريخُ. كانت دولةً مهيبةً لها شأنُها وصيتُها. كانت ترتعدُ فرائصُ من يتكلمُ عنها. هناك ترعرعَ الأطفالُ ونَمَت أجسامُهم فأضحَوا أبطالاً تُوَكَّل إليهم أمورَ الدولةِ في سنٍّ مبكرةٍ فيسيرون على طريقِ آبائهم وأجدادهم الذين مازال عطرُ سيرتِهم يعبر الآفاق.

بحتاجُ الأطفالُ في هذا السنِّ أن تُنَظَّمَ أوقاتُهم ويُركز معهم الآباءُ على ما يبني شخصياتهم من علمٍ وفهمٍ وأنشطةٍ. بحتاجُ الطفلُ أن بتحدثَ معه والداه كما الكبار فيتحاوران ويتجاذبان أطرافَ حديثٍ ذي قيمة. فيستطيعُ الطفلُ أن يناقشَ ويتكلمَ ويتحررَ لسانُه بما هو مفيدٌ ونافع. لقد بُعِثَ صلى الله عليه وسلم بمعجزةِ كلماتِ القرآنِ الكريم فكانت ذاتَ تأثيرٍ على الأمةِ بمعانيها العظيمةِ ودلالاتها. فوقعُ الكلماتِ أشدُّ من وقعِ السيوفِ.

مهاراتُ القائدِ محمد الفاتح

من بين تلك الانتصاراتِ العظيمة "فتح القسطنطينية" ذلك الفتح المبين الذي قادهُ البطلُ محمد الفاتح. أظهر فيه كل مهارات القتال والكر والفر وزلزلة العدو والدخول معهم في حربٍ سواء نفسية أو بالقتال. استخدمَ مهاراتِه في محاصرةِ سورِ القسطنطينيةِ ورفعِ معنوياتِ جيشِه وحثهم على الجهادِ وبثِّ روحِ العزيمةِ والصمودِ. كان قائداً بارعاً وذكياً. لا يتقدم خطوةً دون استشارة، كان مُقدِماً غيرَ محجم. ظهرَ اليأسُ وتفشَّى الرعبُ بين أهالي القسطنطينيةِ عندما استيقظوا على تكبيراتِ الجنودِ العثمانيين وقد دخلوا القرنَ الذهبي الذي كان محمياً بسلسلةٍ ضخمةٍ تتحكمُ بدخولِ السفن. ولكن كيف دخلوه؟ كان توفيقاً من الله تعالى أن أمرَ محمدٌ الفاتح الجنودَ العثمانيين أن يجروا السفنَ على اليابسةِ للوصولِ إلى القرنِ الذهبي ليلاً على حينِ غفلةٍ من العدو. لقد كانت فكرةً ذكيةً من قائدٍ بارعٍ نجحت في إحباط أهالي القسطنطينية وإشعارهم بالهزيمة.

لماذا علينا قراءةُ التاريخ؟

إن التاريخَ أصلٌ من الأصولِ علينا معرفتُه والتعلمُ منه وأخذُ العظاتِ والعبر والاستفادةُ منه في حياتنا وعدم تكرارِ الأخطاءِ التي وقعَ بها السابقون. أتتْنا تجاربُ الآخرين على طبقٍ من ذهب نأخذها دون تعبٍ فنتعلم منهم ما جهلنا.

دراسةُ الشخصياتِ التاريخيةِ يحفزُنا على رسمِ صور لشخصياتنا وتحديدِ إطاراتِها وأهدافِها فمنْ نجحَ في تلك الحقبةِ الزمنيةِ أهدانا مساراتٍ في الطريقِ نهتدي بها وأنارَ لنا دروباً كانت مظلمةً. إن قراءةَ التاريخِ لأمرٌ ممتعٌ، إنها معرفةٌ عميقةٌ لمن سبقنا خصوصاً عندما يتناولُ نفسَ الحقبةِ الزمنيةِ أكثرُ من كاتب فنتعرف على آراءِ الكُتَّابِ فيها من عدةِ اتجاهاتٍ وجوانب.

نصيحةٌ أخيرةٌ؛ عندما تقرأُ التاريخَ قارن بين السابقين واللاحقين ودقّق في الطريقةِ التي تعاملَ كلٌّ منهما مع الأحداثِ المتشابهة، بهذه الطريقة ستتوقع ما الذي سيحدثُ مستقبلاً فالتاريخُ يعيد نفسه.