لم تكن الانتخابات خلال طفولتي سوى فرصة لمزيد من الشغب في الشارع والأزقة وحتى المدرسة، الأوراق المتناثرة بألوانها المتعددة وشعاراتها التي تضم جميع حيوانات الغابة وأشكال الزهور والعصافير. مرور الرجال والنساء بلباس يدل على الحزب الذي ينتمون له، صراخهم الذي نشاركهم إياه رغم جهلنا بفحواه. مناسبة شيقة لقتل الروتين المدرسي والخروج مبكرا من الأقسام ليتمكن المعلمون من الالتحاق بحملاتهم. تضحكني وعود السياسيين، وعود حالمة تفوق مستوى الخيال وتتربع فوق عرش الأوهام. يكفي أن تستمع لكلام مرشح قضى عشرين عاما بين مناصب الوزارة والبرلمان ولم يصنع شيئا يذكر اللهم بعض الخرجات الكوميدية التي دخل بها تاريخ الفكاهة والغباء وهو يلقي خطابا من الهلوسات السياسية والوعود الغارقة في أحلام عسلية لتفهم أن كل ما يتكلمون عنه هم أنفسهم يستغربون قدرتهم على النطق به. كلما سمعت سياسيا يروج لحزب ما ويمجد إنجازاته المحتلمة في حال فوز مرشحيه تمنيت لو تواصلت معه وطلبت منه أن يضيف لخانة الإنجازات المستقبلية العظيمة، مراحيض نظيفة في الشوارع والمستشفيات والشواطئ والإدارات العمومية. وربما لو كان هذا هو الإنجاز الوحيد الذي جند الحملة للترويج له لتعاطف معه عدد أكبر من الناس.
كلما اندمجت في متابعة شيء على منصة اليوتيوب إلا ويستحوذ على شاشتي إشهار لشركة طيران تركية تحكي خلاله امرأة أمريكية رحلتها إلى بلاد الأناضول، أول كلمة تتلفظ بها السيدة واصفة بها هذا الوقت اللطيف الذي قضته هناك، بأن الرحلة كانت آمنة. الأمان قبل كل شيء، قبل الأكل والفنادق والسهرات والمآثر والمغامرات. الشارع مرآة البلد، والأمن والنظافة يحددان إن كنت في بلد يحترم مواطنيه أم أنك في غابة.
قبل أيام قليلة، تعرضت تقنية تعمل بمستشفى ابن رشد بالبيضاء لمحاولة اختطاف بينما كانت على وشك الانطلاق بسيارتها بعد إنهاء عملها، قام ثلاثة شبان في واضحة النهار يحملون أسلحة بيضاء بالركوب إلى جانب الضحية التي أفلتت من قبضتهم وقفزت من نافذة السيارة بينما لاذ المجرمون بالفرار من داخل المشفى أمام أنظار المارة والحراس. مأساة تنضاف لمآسي الأمن في هذا البلد، الذي صار فيه التوجه للعمل مغامرة تجب دراسة عواقبها جيدا، أما ممارسة المشي أو الجري أو فقط الجلوس بجانب شاطئ ما فهو أشبه بالدخول لمعركة دون سلاح. ناهيك عن التحرش الذي يخنق النساء، فالأمن الجسدي والنفسي مطلب يخص الجنسين المهددين من طرف مجرمين لم يعد حتى ضوء النهار يثنيهم عن إشهار أسلحتهم.
الشارع الذي يتهافت عليه طلاب الفوز والترشح والكراسي ويمشون فوقه بمكبرات الصوت يصرخ من خلاله شباب متحمس يعد بالرفاه والسعادة والقضاء على البطالة والفقر والجهل والفساد بمخططات وأساليب استعملها أجداد هؤلاء الشباب ولم تفد أحدا سوى أصحابها. هو نفسه الذي ينتشر فيه النشالون والمجرمون والمخدرون والمتحرشون ليل نهار مستعدين لتعذيب أي مواطن يمارس حقه في استخدام الأرصفة حتى يتخلى عن ما في جيوبه. هو نفسه الشارع الذي يتركه كل هؤلاء، المرشحون وحاشيتهم والمجرمون وضحاياهم غارقا في قذارته، ينتظر عاملا ضجرا بمكنسة منهكة لينظف أوساخ الحزب.
الشارع يجمعنا ويوحدنا مع مآسينا التي نحاول القفز عليها في جلساتنا ولقاءاتنا وصورنا وخطاباتنا الرقيقة المنومة في العالم الافتراضي، أبراج نتسلقها لنهرب من حقيقة شوارع وأحياء غير آمنة، نعجز فيها عن إخراج هاتف من حقيبة، بينما المرشح عنها يعدنا برحلة جماعية للفضاء.
كمواطنة لا تهتم كثيرا بالسياسة ولا تشاهد السياسيين إلا من أجل الضحك، أظن أن التجول الآمن دون فزع في شوارع المدن والتحرر من عقد الاعتداء المحتمل في كل لحظة قررت فيها الخروج لقضاء أغراضي، إضافة إلى مرافق صحية نظيفة لائقة بجنس الآدميين تسمح للناس بحفظ كرامتهم والحفاظ على نظافة الشوارع هما مطلبان يجب أن يوضعا على رؤوس المرشحين أنفسهم وليس فقط على رؤوس برامجهم الانتخابية.
التعليقات