كنتُ أريد أن أقرأ كتاباً أدبياً قديماً وأنهل من فنون آداب القدماء. وجدتُ هذا الكتاب في مكتبة والدي، فوقع عليه الاختيار، وخصوصاً أنه أصغر الكتب في معالجة نفس الموضوع.

مقارنة بالأغاني أو العقد الفريد فهو صغير جداً.

لكنه حقاً أطول كتاب استمررت في قراءته منذ وقت طويل. وقت طويل جداً لدرجة أني لم أعد أتذكر منذ متى، وحتى أنني قرأت عدة كتب موازية لقراءتي لهذا الكتاب. لا أغفر لنفسي أنني كنت كسولاً في الفترة الأخيرة عن قراء الكتب. والسنة المنصرمة ليست هي السنة المثالية في القراءة ولا التي قبلها. في الحقيقة، لا يوجد لي سنة مثالية في القراءة.

هذا الكتاب من تأليف أحمد الهاشمي، المتوفي سنة 1943م. معلمٌ مصري وأديب، تلقى تعليمه في الأزهر على كبار شيوخ الأزهر في عصره من أمثال الشيخ محمد عبده والشيخ سليم البشري والشيخ حسونة النواوي.

كان مديراً لعدة مدارس وأّلف عدة كتب في علوم العربية مثل: "جواهر البلاغة" في فنون البيان والبديع والمعاني، و"ميزان الذهب" في عروض الشعر الخليلية، و"المفرد العلم في الرسم بالقلم" في الإملاء، و"جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب" وهو الذي أناقشه وأظن أنه أكثر هذه الكتب انتشارا وشهرة.

يقول الهاشمي في مقدمته المقتضبة: "أودعت هذا الكتاب ما وقع عليه اختياري، لا من نثري وأشعاري، فليس لي من الافتخار أكثر من الاختيار".

واختياره دلّ أيضا على شخصيته واطّلاعه وذوقه الرفيع وتواضعه أيضاً رغم أنه أورد من كتابته قصيدة وبضعة كتابات قليلة تجعله في خانة الأدباء المرموقين.

الكتاب يتكون من جزأين، وفي هذا عذر لي أنني أطلت في قراءته، وتبلغ عدد صفحاته زهاء 530 صفحة. هذا في الطبعة التي قرأتها، بعض الطبعات قد تصل إلى 1000 صفحة. هناك عدة طبعات وجدت إحداها في الويب، طويلة ومفصلة أكثر لكنها قديمة وجودتها أقل من متوسطة. طبعة أخرى ورقية وهي التي قرأتُ منها من دار الفكر سنة 2005.

الطبعة جيّدة في أولها ولكنْ أساءت أيما إساءة في الجزء الأخير من الكتاب وبالذات في الأشعار، فرأيت أخطاءً تشكيلية تسيء وتقدح في النص الشعري ووزنه وبعض التشكيلات التي تبيّن أن من طبع الجزء الأخير من الكتاب -مع احترامي- بليد كبير ولا يفقه في الأدب شيء. لا أدري عن الطبعات الأخرى.

الكتاب أشبه ما يكون من كل بستان زهرة. قال عنه سعد زغلول "دائرة معارف أدبية". تقسيمه للمواضيع جيد ويسهل العودة لكل موضوع، فيمكن استخدامه كمرجع تعود إليه عند الحاجة.

انتقى الهاشمي جواهره من فنون الإنشاء السبعة: المكاتبات والمناظرات والأمثال والأوصاف والمقامات والروايات والتاريخ. وفي الجزء الثاني شرح تاريخ الأدب العربي وأغراض اللغة ابتداء من العصر الجاهلي وحتى عصر الكاتب، واختتم الكتاب وختامه مسك بمختلف أغراض الشعر بحسب الموضوع لا بحسب الشاعر أو عصره.

بدأ الكتاب في مقالات تنظيرية عن الكتابة والإنشاء مأخوذة من "أدب الكاتب" لابن قتيبة وغيره. ثم انتقل إلى فن الرسائل وضروبها، كرسائل الشوق والهدايا والاستعطاف والشكر والشكوى والوصايا وغيرها.

ثم انتقل إلى المناظرات الأدبية، وهي في غاية الروعة والجمال ومنها مناظرة بين الليل والنهار وبين السماء والأرض وبين صاحب أبي تمام وصاحب البحتري.

ينتقل بعدها الكتاب ليقدم فن الوصف، من وصف القلاع والمدن والظواهر الطبيعية فيعرض مقامتين لبديع الزمان والحريري وينهي الجزء الأول في الروايات، وهي ليست هذه الروايات الحديثة المطوّلة بل هي أشبه بقصص ونوادر الأعراب مثل قصة المتكلّمة بالقرآن فقط.

يبدأ الجزء الثاني من الكتاب بالحديث عن عصور اللغة العربية بالتقسيم التاريخي - السياسي المعروف، عصر الجاهلية، يليه صدر الإسلام ويشمل العصر الأموي فالعصر العباسي ثم عصر المماليك وأخيراً عصر النهضة الأخيرة في زمن الكاتب. يتحدث أيضا عن العرب وأخلاقهم وعاداتهم الاجتماعية قبل الإسلام ووصف الأرض وعلم الفراسة وغيرها.

يذكر الكاتب في كل عصرٍ الفنون التي شاعت أو نشأت فيه، ثم تعريض سريع بأعلامٍ من كل عصر أدبي.

يذكر في هذا المرور السريع معظم أهل الأدب القدماء المشهورين، ويعد في هذا مرجعاً سريعا لمن يريد التعرف على شاعرٍ أو أديبٍ ما بسرعة وإيجاز.

وآخر قسم في الكتاب في أبواب الشعر العربي، في المديح والفخر والوصف والرثاء والوعظ والعلم وغيرها من الأغراض.

أعتب على الكاتب أمرين، أولهما، عدم ذكر المصادر التي أوردها في الجزء الثاني عند وصف الأعلام والفنون المذكورة فيها على خلاف الجزء الأول الذي ذكر فيه المقالات نسبة إلى الكتاب المأخوذة منه، فلا تعرف هل هذا الوصف من كتابته أو من غيره من المصادر.

ثاني العتب، وهو تجاهل الكاتب للحب تماما من أغراضه الشعرية والأدبية إلا ما ذكره في بعض أشعار المعلقات على الهامش، وكيف يصلح ذلك؟! والحب هو من أشهر أغراض الأدب العرب، وأكثرها شيوعا. قد يكون من الخجل وهذا غير مقبول، فكيف بفقيهين كبيرين كابن القيم وابن حزم وصفا الحب وأشعاره وأغراضه بتفصيل لا غبش فيه وذكرا ما يستحي منه مَن بعدهم.

وأخيراً، أقول كما قيل في مقدمة الناشر "إن هذا الكتاب سِفْرٌ جميل، يكاد يكون للطالب مرجعاً هاماً، وللمسافر رفيق طريق، وللندوات خير جليس، وللأديب تذكرة ونيس".

هذا الكتاب يشحذ القريحة ويسلي النفس ويصل بين كتابات المتقدمين والمتأخرين.

ليس سهل القراءة، هو يعرض الكثير من الحواشي لشرح غموض بعض الكلمات وبعض السياقات، وهذا يصعّب مهمة القراءة ويجعلها مرهقة نوعاً ما. أنصحك بأن تجعل في خياراتك قراءة كتاب رديف أو موازٍ وتذكر ما قاله أبو الطيب:

لولا المشقّةُ ساد الناس كلهُم ُ *** الجود يُفقِرُ والإقدام قتّالُ

والسلام.