بسم الله الرحمن الرحيم
مقتطفات من كتاب ( ( إشكالية الإنسان عند دستويفسكي ) دراسة الاشتغال الفلسفي في الإطار الفني )
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد،،،
كتاب ( ( إشكالية الإنسان عند دستويفسكي ) دراسة الاشتغال الفلسفي في الإطار الفني )، تأليف: د. جاسم بديوي، الطبعة الأولى، 2015، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر وهران، دار الروافد الثقافية - ناشرون، الحمراء بيروت - لبنان.
1- ( ورب سائل يسأل: ما معنى أن يعرض الكاتب ما لم يقتنع به؟ والإجابة على ذلك هي أنه في تلك النقطة بالذات تكمن عبقرية دستويفسكي، وتكمن أيضاً الإثارة في أثناء دراسته، فمن خلال منهجهِ الأنثربولوجي الشعري الفلسفي الذي كان موضوع الفصل الثاني اوجد الكاتب ما يسمى بـ ( الرواية متعددة الأصوات)، تلك الرواية التي تعد فتحاً فنياً مبتكراً من قبل الكاتب، ونفترض هذه الرواية تعدد الأصوات أي تعدد رؤى الشخصيات ومن ثم تعدد واختلاف طروحات الكاتب وطروحات الشخصيات بطريقة منسجمة، وعليه، لم تعد الفكرة داخل الرواية خاصة بالمؤلف كما أن المؤلف لم يعد مسؤولاً عن أفكار شخصياته، كل ذلك في صيرورة جدلية لتبادل الآراء، حيث تمتزج وجهات النظر المتعددة ). الصفحة ( 13 ).
2- ( عاش فيدور الابن الثاني من أسرة تتكون من أربعة أولاد وأخواتهما فضلاً عن أمه ماري فيدورفنا دستويفسكي التي توفيت مبكراً في سن السابعة والثلاثين من عمرها، والأب البخيل القاسي على أبنائه على الرغم من امتلاكه بعض الأراضي، ولقد أثرت صورة والده في طفولته كثيراً فيذكر إن قيلولته في الصيف كانت على حساب أولاده، حيث يتمدد الطبيب الأب ميخائيل اندروفتش دستويفسكي بعد غدائه على أريكة من جلد، ويقف أحد الأولاد ليطرد الذباب عن وجهه، فإذا ما استطاعت ذبابة اختراق الغطاء وأزعجت الوالد النائم فعندئذٍ سيكون " الويل لمن يترك ذبابة تمر" أما بقية العائلة فتجتمع في غرفة أخرى، لتتحدث همساً، وتضحك ضحكاً مخنوقاً خوفاً من غضب الوالد النائم ). الصفحة ( 16 ).
3- ( شاءت المصادفة أن يتعرف دستويفسكي الشاب إلى م. ف بوتاشيفيتش - بتراشسفكي ربيع عام 1846 وكان الأخير موظفاً في وزارة الخارجية، وكان يمتلك حلقة أو جمعية سرية لم يحسب دستويفسكي أن حضور بعض جلساتها أيام الجمعات سيلقي به في منعطف يغير حياته برمتها، نعم قرأ الكاتب الشاب أفكار الطوباويين الاشتراكيين كسان سيمون وفورييه وكونسيديران لكنه لم يقحم نفسه في أن يصبح بروباغاندا لأي ايديولوجيا كانت، وأخذت أفكار هذه الجمعية بالتطور وأتهمت أخيرا بالتآمر ضد روسيا واعتقل جميع أفرادها وكان الشاب دستويفسكي من هؤلاء المعتقلين بتهمة نشر رسالة الأديب بيلنسكي (المليئة بالعبارات الوقحة) ضد الكنيسة الارثوذوكسية… ولإشاعة المؤلفات المعادية للحكومة، لذا صدر عليه وعلى مجموعة أخرى معه حكم الإعدام رمياً بالرصاص في رواية لا يشكك فيها معظم الباحثين، وبعد قراءة الحكم للتنفيذ، صدر عفو بقرار القيصر نيقولا الأول لتخفيف الحكم إلى عقوبة الحبس والأشغال الشاقة في سيبريا لمدة ثماني سنوات هذا بعد تجريده من رتبته العسكرية ومن حقوقه كافة. وهنا تكشفت لدستويفسكي حياة جديدة ومر بتجربة إنسانية مريرة، تجربة السجن، تجربة الحرمان من الحرية، وتجلت للكاتب معاني الانفصال المعرفي عن أفكاره السابقة ليكون لنفسه رؤية جديدة ويشكل منعطفاً أخلاقياً وموقفاً روحياً، جعلت من مدة السجن مرحلة انتقالية بين دوستويفسكي ما قبل السجن ودستويويسفكي ما بعد السجن، وظهر ذلك واضحاً بكتاباته.
لقد عرفنا من خلال دستويفسكي ما بعد السجن اروع روايات في العالم، عرفنا ذكريات من منزل الاموات، والابله، والجريمة والعقاب، والاخوة كارامازوف، واعتقد ان تلك الروائع قد كتبت في وقت عد فيه بعض الباحثين الكاتب رجعيا وفقا لنفس التقسيم السابق لكن بتسمية دستويفسكي الطيب التقدمي ودستويفسكي الرجعي، ونجد اسباب تلك التقسيمات ترجع إلى اصول ايديولوجية في التعامل مع العبقرية التي هي ملك العالم بأسره، ثم إن أعظم روايات الكاتب عرفتها الإنسانية كانت في فترته ( الرجعية - الشريرة )، ما أدى إلى خلود ذلك الإنسان الذي لم يختلف على ألمعيته التقدميون ولا الرجعيون، يوم توحدت روسيا بأجمعها خلف جنازته لتودعه إلى مثواه الاخير، نعم نوافق على إن بعض آراء دستويفسكي الصحفية غير مقنعة وليست كاملة واحيانا تكون غريبة على سبيل المثال مقالته حول ضرورة الاستيلاء على القسطنطينية وإلى ذلك من قبيل هذه الآراء، لكن تلك جزيئات صغيرة لا تشكل موقفاً كبيراً مما قدمه دستويفسكي من منجز إبداعي وفكري بشكل كامل، فلا يمكن ولا يجوز أن يحاكم الإبداع والعبقرية من زوايا أيديولوجية؛ لان الفن اكبر من الايديولوجيا وأوسع من المنظومات السياسية، الايديولوجيا تنتهي لكن الثقافة والابداع تشكل روحاً للعالم، والروح الإنسانية تعاصر قيم الروح ولا سيما لدى عظيم مثل دستويفسكي تغترف منه المناهج المعرفية إلى يومنا هذا وتستنير من ومضاته الفريدة ). الصفحة (20-21).
4- ( وقد استيقظت عاطفة الكاتب متأخرة بعض الشيء عن المرأة ووجودها، ولا يكاد أن يكون هناك فرق بين المرأة في حياة دستويفسكي، والمرأة في كتاباته ويذكر ترويا أن رفاق الكاتب الشاب أرادوا تقديمه في حفل إلى فتاة جميلة تدعى لاستيافانا ذات شفتين صبيانتين وشعر أشقر وعينين هادئتين باردتين وما كادت تقول له كلمة مألوفة عابرة حتى شحُب لونه وأرتجف وسقط فاقداً للوعي، فحملوه إلى الغرفة المجاورة ورشوا عليه ماءاً معطراً، وكُتبت عليه القصائد الهزلية بعد ذلك ). الصفحة ( 22 ).
5- ( لا يقدم دستويفسكي إنساناً بديهياً عادياً. في محاولة لتقديمه كما هو. بل يحاول كشف إنسان متزعزع في حركة الظروف غير الطبيعية ظناً منه بأن الطبيعة الإنسانية الحقيقية لا تتحقق في الحياة الهادئة التي يعيشها الإنسان وفقاً لظروف هادئة ايضاً حيث لا تتجلى الطبيعة الإنسانية في الرخاء واليوميات الإعتيادية… لكنها تكمن في الأزمات والاختلالات الروحية والأخلاقية، وقد نبه دستويفسكي الكثير من المشتغلين في الحقول لاحقاً إلى هذه المنطقة المهمة للكشف عن الإنسان ). الصفحة ( 34 ).
6- ( ان شخصيات دستويفسكي شخصيات بركانية ومحتدمة، وهي منشقة عن كاتبها ومتمردة عليه احياناً، وينبغي ان لا يفهم من هذا تناقض الكاتب في آرائه لأن شخوص المؤلف قد لا يكونون في طاعته تماماً ولا هم تحت سيطرته، وتحت سطوته، فلطالما اعترف دستويفسكي نفسه بالهزيمة امام ايفان كارمازوف وكم كره راسكولينكوف.
ولم يكن دستويفسكي الشخص الوحيد الذي لحقته الهزيمة من قبل ابطاله فهذا الفيلسوف الاسباني اونامونو في قصة (ضباب) يعترف هو الآخر بتمرد بطله عليه ونوجز القصة بما يأتي:
كان البطل يحب احدى النساء، ولكنه لم يستطع الزواج منها نظراً لحياته المتواضعة التي لم تكفل لها حياةً مستقرةٌ آمنة، وقد حدا هذا إلى أن يسعى إلى تزويجها برجل تستطيع الحياة معه، وقد يسّر لها هذا الاجراء بأن عرض عليها بقاء صداقته لها بعد الزواج، وفي يوم العرس تترك له خطابا لا يكاد يقرؤه حتى يقرر الانتحار، وفي هذه اللحظة يتدخل المؤلف ويدور بينه ووبين البطل حوار يقطع خيط القصة حول فكرة الانتحار، فيقول المؤلف إنك عاجز عن قتل نفسك لأنك لست حيا، وان وجودك خرافي، فأنا الذي خلقتك، وحياتك وقوتك بين اصابعي ورهن ارادتي، فيرد البطل، أنت هو الموجود الخرافي فلست حياً ولا ميتاً والمؤلف لا يستطيع خلق شخصيات قصصه على النحو الذي يشاء بل إنه لا يعرفهم، ويثور عليه المؤلف محاولاً تأكيد أنه خالق الشخصية، وأنه يحيي ويُميت وهو يحكم عليه بالموت بيد أن البطل يرد على المؤلف بأنك لا تريدني أن أحقق نفسي وأن أخرج من الضباب واحس وأتألم بما حولي، وإذا كنت سأموت فإنك أيضاً ستموت وتعود إلى العدم، الذي كنت قبل وجودك، وبعد ذلك ينتحر البطل ويعلن المؤلف ( أن الذي يموت مرة لا يستطيع الخالق أن يبعثه لأن أحداً لا يرى حلماً واحداً مرتين… ). الصفحة ( 40 - 41 ).
كتاب ( ( إشكالية الإنسان عند دستويفسكي ) دراسة الاشتغال الفلسفي في الإطار الفني )، تأليف: د. جاسم بديوي، الطبعة الأولى، 2015، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر وهران، دار الروافد الثقافية - ناشرون، الحمراء بيروت - لبنان.