بسم الله الرحمن الرحيم
مقتطفات من كتاب (نداء الحقيقة)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
كتاب (نداء الحقيقة),مارتن هيدجر, ترجمة: عبد الغفار مكاوي, 1977, دار الثقافة للطباعة والنشر, بالقاهرة.
1- (ما هو الوجود؟ كيف نعرفه؟ ولكن السؤال خاطئ. فقد تعودنا على تصور أن الوجود هو وحده (الواقعي) وإن ما لا نتثبت من وجوده فهو غير واقعي. غير أن الوجود ليس هو الموجود. وهو كذلك ليس (موضوعاً) ولا يمكن تصوره كما نتصور الموضوع... ). الصفحة (13).
2- (ونأتي إلى صعوبة هيدجر التي يئن منها الجميع في كل مكان! وهي مرتبطة إلى حد كبير بمشكلة اللغة التي يعبر بها عن فكرة الوجود. وهو متهم بأن لغته عصية على الفهم, وأن أسلوبه عجيب غير مألوف حتى لأبناء لغته, وأنه ينحت (جهازا) من المصطلحات التي لا تعرفها اللغة الفلسفية ولا تعرفها لغته نفسها, ويغوص إلى اشتقاقات منسية أو مشكوك في أمرها ليستمد منها دعائم فلسفته – كل هذا أمر معروف يكاد أن يرتبط باسمه... ) الصفحة (17).
3- ( {هيدجر} ... ثم شغل كرسي هسرل بجامعة فرايبورج في هذه السنة الأخيرة, واختير مديراً لها سنة 1923, وألقى بهذه المناسبة خطابا مشهوراً عن تأكيد الجامعة الألمانية لنفسها, بعد الزلة السياسية الكبرى التي وقع فيها ضحية انخداعه بالنازية. ولكنه لم يلبث أن تبين خطأه الرهيب – فتنازل عن منصبه في العام التالي مباشرة, وجاهد طوال عمره – عن قصد أو غير قصد – للتكفير عن هذه السقطة التي لم يغفرها له كثير من المفكرين الفرنسيين بوجه خاص...). الصفحة (23).
4- (حياة وهبها صاحبها للعمل وحده, فكان العمل هو الحياة. ولعلها أن تكون شبيهة من بعض الوجوه بحياة مواطنه العظيم كانت: ملل ورتابة لا حد لها من الخارج, وثورة لا حد لها من الداخل... ). الصفحة (24).
5- (لقد عرف هيدجر وجود الإنسان بأنه وجود – للموت. وهذا صحيح من حيث إن الموت هو نهاية الحياة وقانونها المحتوم. ولكن الإنسان لا يحيا لأجل الموت, بل لأنه كائن حي. وهو لا يفكر لكي يصل إلى نتيجة معينة, بل لأنه بطبيعته كائن مفكر باحث عن المعنى. وتحولت مهمة معلم الفلسفة من تكديس الحقائق والنظريات والمعلومات إلى طرح قضايا وإشكالات يشتعل حولها الحوار. بعثت كنوز الماضي ودبت فيها الحياة.. ولم يعد المعلم يتكلم (عن) أفلاطون ونظريته في المثل كأنها شيء مضت عليه ألفا سنة, بل يناقش نصوصه خطوة خطوة بحيث تصبح مشكلة حاضرة حية يتصل بيننا وبينها الحوار.
ولعل الدرس الذي نستطيع أن نتعلمه من هذا الفيلسوف لن يخرج في نهاية الأمر عن هذه العبارة: الطريق هو كل شيء, أما الهدف فلا شيء فهل تصحبني الآن على هذا الطريق؟.. ). الصفحة (32-33).
{قال تعالى: (( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97))). [النحل:97].
وقال تعالى: (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57))). [الدخان:57] }.
6- (لابد إذا من إزالة الحجب التي تراكمت على التراث فغطته أو شوهته أو ألقته في مهاوي النسيان. ولابد من الرجوع إلى منابعه الأصلية التي استمدت منها المفاهيم والمقولات المأثورة التي ظلت المذاهب المتوالية تتناقلها وتنحرف بها عن أصولها وعلينا أن نضع المفاهيم في سياقها التاريخي بدلا من أن نأخذها مأخذ الحقائق الأبدية الثابتة التي نكتفي بتلقيها وتسليمها للأجيال اللاحقة ). الصفحة (46).
7- (... ومع هذا فإن من السهل علينا أن نفرق في الموجودات التي نعرفها بين موجود يدخل في علاقة مع نفسه ويقدر على تنميتها وبين موجود آخر عاجز عن هذه القدرة فالحجر يوجد أو يكون, ولكنه لا يملك الدخول في علاقة مع نفسه. وقل مثل هذا عن الشجرة والبيت والكرسي وغيرها من الموجودات غير البشرية. أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي لا يقتصر على أن يوجد أو يكون, وإنما يتعدى هذا إلى الدخول في علاقة مع ذاته ومع الذوات الأخرى التي يشترك معها في الوجود وتشاركه فيه, ومع سائر الموجودات غير الإنسانية... ). الصفحة (50).
8- (وفي حياتنا اليومية شواهد كثيرة على تنكر الإنسان لماضيه ومحاولته إسدال ستر من التجاهل والنسيان عليه حين يكون بصدد التخطيط لمستقبله (أو الشروع له كما يقول هيدجر)! وهو بهذا الأسلوب ينغلق على نفسه, وينخدع فيها, ويتهرب منها. وفي الأدب المحلي والعالمي شواهد عديدة تقدم لنا شخصيات تهربت من شبح ماضيها وحاولت أن ترتفع إلى قمة الطموح والمجد فهوت في وادي الآلام والموت (وتحضرني الآن بداية ونهاية لنجيب محفوظ, والأحمر والأسود لستندال والبطة الوحشية لإبسن) وهذا هو موقف عدم التصميم الذي يقع على طرفي نقيض من موقف التصميم الذي ذكرناه). الصفحة (112).
9- (ومهما حاولنا أن نستخف بالسر ونرجم من ينبهنا إليه بأحجار الكلمات السهلة والشعارات المحفوظة, مهما نسيناه أو تناسيناه وأنكرناه, فلن يفلح هذا في الغائه, لأن النسيان والتناسي والإنكار لا تزال جميعها تعبيرا عن صورة من صور العلاقة التي تربطنا به... ). الصفحة (169).
10- ( ولعلنا لا نبالغ لو قلنا إن الفلسفة الافلاطونية متغلغلة في تاريخ الميتافيزيقا كله, وان صورتها الأخيرة عند نيتشه امست في الحقيقة سوى أفلاطونية مقلوبة. ولعل الفيلسوف الإنجليزي وايتهيد ألا يكون أيضاً قد أسرف في المبالغة حين قال إن الفلسفة بأسرها ليست سوى هوامش وتعليقات على أفلاطون.
هل معنى هذا ان الفلسفة لم تتطور؟ (تطورت بالطبع, ولكنه كان ولا يزال تطورا غير التطور العلمي الذي ينسخ آخره أوله ويغني حاضره عن ماضيه (اللهم الا عند المهتمين بتاريخ العلم). ولقد تطورت الفلسفة أو بالأحرى تفتحت وفضت نفسها – إن صح تعبير هيجل ( - في العلوم المختلفة التي استقلت عنها (ثم لم تكتف بهذا بل بدأت في السنوات الأخيرة تغزوها بمناهجها ومقاييسها وتحاول على يد المتطرفين من الوضعيين أن تشبكها في ذيلها) ولا ينكر أحد أن كثيرا من المسائل التي كانت تتناولها الفلسفة قد انتقلت اليوم الى ميدان العلوم المتخصصة, وأصبح من المستحيل على الفيلسوف أن يدلي فيها برأي قبل أن يعرف وجهة نظر العلماء. وربما وقع في ظننا أن العلم قد أزاح الفلسفة عن مكانها وحكم عليها بالبطالة الأبدية (ولكن الواقع أن هذا علامة تدل على تمام الميتافيزيقا ووصلوها الى نهاية امكانياتها. ذلك أن النظر السطحي وحده هو الذي يفصل العلم الحديث عن الميتافيزيقا الحديثة التي نشأ على أرضها, واكتسب طابعه (التقني) الذي يتحكم اليوم فيه من الطابع التقني الذي غلب على الميتافيزيقا منذ عهد بيكون وديكارت على أقل تقدير. وما تفتح الفلسفة في العلوم المستقلة التي يزداد التعاون والتداخل بينها الا دليل مشروع على تمام الفلسفة. فالفلسفة تنتهي في عصرنا الحاضر. ولقد وجدت مكانها في النزعة العلمية المسيطرة على البشرية العاملة. والطابع الغالب على هذه النزعة العلمية هو الطابع التقني والسيبرنيطيقي الذي يحقق انتصاراته في عالم الآلة والصناعة والتقنية والمجتمع الإنساني الذي انعكست عليه آثاره.
هذه هي الصورة التي انتهت اليها الفلسفة وكانت بذورها كامنة في الفكر الغربي وطموحه الى المدنية العالمية.
هل ذابت الفلسفة في هذه النزعة العلمية السائدة؟ هل انتقلت الى العلوم المتخصصة وتبددت كل امكانياتها أم وصلت كما قلنا الى غايتها الأخيرة؟ ألا تنطوي الفلسفة على إمكانية خافية عليها هي نفسها؟ هل يمكن أن تكون هذه النهاية بداية فكر جديد, وتتحقق خرافة العنقاء التي تبعث من الرماد؟ ألم يبق أمام الفلسفة الا أن تنوح كما ناحت (هيكوبا) زوجة الملك برياموس على أبنائها الذين ذبحوا أمام عينيها – كما قال كانط في مقدمة كتابه نقد العقل الخالص – أم تجتر أحزانها كاليمامة الوحيدة في عشها بعد أن هجرتها أفراخها ونسيتها وتنكرت لها؟ ). الصفحة (223-224).
11- (1944 {هيدجر} جند في فرق (العاصفة الشعبية) التي كونها هتلر في أواخر الحرب العالمية الثانية.
1945 {هيدجر} قوات الاحتلال (الفرنسية) تحظر عليه التدريس, وقد استمر الحظر حتى سنة 1951). الصفحة (234).
12- (فلهفة الانسان بين الهرب من السر واللجوء إلى (الواقع) المعتاد, واندفاعه من موضوع يومي إلى آخر, وغفلته المستمرة عن السر, كل هذا هو الضلال (أو الزيغ والخطأ) ). الصفحة (288).
13- (سقراط: والآن, قارن طبيعتنا من وجهة التربية بمثل هذه التجربة. تأمل هذا؟ أناس يقيمون تحت الأرض في مسكن اشبه بالكهف. مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار. في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة مقيدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم. بحيث يبقون في نفس الموضع, فلا يملكون إلا النظر إلى الأمام ليروا ما يواجههم. إنهم, بسبب هذه القيود والسلاسل, عاجزون عن التلفت حولهم برؤوسهم. في إمكانهم مع ذلك أن يبصروا نورا يأتي من أعلى ومن بعيد, وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم. بين النار وبين المقيدين بالسلاسل (أي في ظهورهم) يمتد في الجهة العلوية طريق بني على طوله – تصور هذا – جدار منخفض شبيه بالحواجز التي يقيمها المهرجون (أصحاب الألعاب البهلوانية والعرائس المتحركة) أمام الناس لكي يعرضوا عليهم ألعابهم.
- قال, هذا ما أراه.
- تأمل كذلك كيف يعبر الناس على طول هذا الجدار الصغير حاملين مختلف الأشياء, من تماثيل وصور من الحجر والخشب وغير ذلك مما يصنع البشر, فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظر, ويمر البعض الآخر صامتين.
- صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها, هكذا قال, ومساجين من نوع غريب.
- قلت, إنهم يشبهوننا نحن البشر شبها تاما. مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينهم منذ البداية, سواءً كان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم, إلا على الظلال التي تلقيها النار على جدار الكهف المواجه لهم.
- قال, وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أجبروا على عدم تحريك رؤوسهم طوال حياتهم.
- ولكن ماذا عساهم يرون من هذه الأشياء التي يحملها الناس (خلف ظهورهم), ألا يرون هذه (الظلال) نفسها؟.
- الأمر كذلك في الواقع.
- لو كان في وسعهم أن يتحدثوا مع بعضهم البعض عما يرون, ألا تعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟.
- بالضرورة.
- ماذا يكون الأمر إذن لو أن هذا السجن تردد فيه صدى من الجدار المواجه لهم؟ ألا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرون خلف المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمر أمامهم؟
- لا شيء غير ذلك, بحق زيوس؛
- قلت, إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئا حقيقا سوى ظلال الأدوات (التي يحملها العابرون).
- قال: بالطبع هذا أمر ضروري.
- قلت, تتبع إذن بنظرتك كيف يفك المسجونين من قيودهم ويشقون في نفس الوقت من فقدان البصيرة, وتفكر عندئذ كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي. كلما فكت السلاسل عن أحدهم وأجبر على الوقوف على قدميه فجأة والالتفات برقبته والسير قدما والتطلع إلى النور, فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألما (شديدا), وان يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبل. (لو أن ذلك كله حدث له) فماذا تحسبه يقول لو أن أحدا أخبره بأن ما رآه من قبل لم يكن إلا عدما, وأنه الآن أقرب إلى الوجود وأن نظره أكثر صوابا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودا؟
ولو أن أحدا عرض عليه الأشياء التي مرت عليه واحدا بعد الآخر واضطره أن يجيب عن سؤاله عما هو هذا الشيء, ألا تعتقد أنه سيحار كيف يرد عليه وأنه سيعد ما رآه بعينيه من قبل أكثر حقيقة مما يعرض عليه الآن؟.
- بالطبع.
- وإذا أجبر أحد على النظر إلى النور (المنبعث من النار), ألن تؤلمه عيناه ويتمنى أن يحولهما عنه ويفر إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يعرض الآن عليه؟
- الأمر كذلك.
- قلت: وإذا حدث أن أحداً جذبه بالقوة من هناك وشده على الطريق الوعر (إلى خارج الكهف) ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس, ألن يشعر عندئذ بالألم والسخط؟ ألن يحس, وقد وقف في نور الشمس, بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع, وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئا مما يقال له الآن إنه حق؟
- لن يقوى أبدا على ذلك, أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل.
- أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعود إذا كان عليه أن يرى ما هناك (أي خارج الكهف في ضوء الشمس). إنه سيتمكن في أول الأمر (نتيجة لهذا التعود) من النظر في يسر شديد إلى الظلال, وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء, إلى أن يتمكن أخيرا من رؤية هذه الأشياء نفسها أي الموجودات الحقيقة بدلا من انعكاساتها. ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما (يتجلى) منها في قبة السماء, كما يرى السماء نفسها, وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى ضوء النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟
- لا شك في ذلك.
- أعتقد أنه سيتمكن في آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها, لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب ( وسيتمكن من النظر) إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها وفي الموضع المحدد لها, لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها.
- من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك.
- وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يجمل القول عنها (أي عن الشمس) فيعرف أنها هي التي تضمن (تعاقب) فصول السنة كما تضمن (مر) السنين وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية, بل إنها (أي الشمس )علة كل ما يجده أولئك ( المقيمون في الكهف) على نحو من الأنحاء حضارا أمامهم.
- واضح أنه سيصل إلى هذا (أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها) بعد أن تجاوز ذاك (أي ما كان ظلا وانعكاسا فحسب).
-ماذا يحدث إذن لو أنه تذكر سكنه الأول وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له بينما يأسف لأولئك؟
- أسفاً شديدا!
- فاذا حددت في المكان القديم (بين من كانوا يقيمون في الكهف) جوائز وألوان معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة, ويتذكر ما يمر منها في المقدمة ثم ما يتبعها أو يتفق مروره معها في وقت واحد ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره, أتعتقد أنه ( أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة) سيحس بالشوق إليهم (أي إلى الذين لا يزالون في الكهف) لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة, أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس ( من خدمة رجل غريب فقير) وسيحتمل كل ما يمكن احتماله ويؤثر على اعتناق الآراء ( التي يؤمنون بها في الكهف) والحياة كما يحيون؟.
- أعتقد أنه سيفضل أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة ( التي يحيونها في الكهف).
- قلت: والآن في هذا, لو حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط إليه مرة أخرى وجلس في نفس المكان (الذي كان يجلس فيه), ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟.
- قال: طبيعي جدا أن يحدث له ذلك.
- فاذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال, في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان (من الضوء) قبل أن تعودا سيرتهما الأولى – الأمر الذي سيستغرق منه زمنا غير قليل أن يتعود عليه – ألا تعتقد أنه سيعرض نفسه هناك للسخرية, وأنهم سيحاولون إقناعه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينين عريضتين, وأن الأمر لا يستحق أبدا أن يشق الانسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى, (ألا تعتقد ) أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه حقا؟.
- قال: يقينا سيفعلون ذلك.
ما معنى هذه الحكاية؟ - إن أفلاطون يتولى الجواب بنفسه, فهو يقوم بتفسيرها بعد الانتهاء من روايتها مباشرة.
المسكن الشبيه بالكهف هو (صورة).. (المقر الذي يتبدى للنظر (كل يوم). والنار المتوهجة في الكهف, فوق رؤوس سكانه, هي (صورة) الشمس. وقبة الكهف تمثل قبة السماء. تحت هذه القبة يعيش البشر, مرتبطين بالأرض ومقيدين بها. وكل ما يحيط بهم ويشغلهم هو بالنسبة إليهم (الواقع), أي الوجود. في هذا المسكن الشبيه بالكهف يحسون أنهم (في العالم) وأنهم (في بيتهم) ويجدون كل ما يثقون فيه ويعتمدون عليه). الصفحة (304-305-306-307-308-309-310-311).
14- (ولهذا لا تنتهي القصة التي يحكيها (الرمز) بالنهاية التي يحلو للبعض أن يتخيلوها, أي بوصف أعلى مستوى يصل إليه السجين المتحرر وهو الخروج من الكهف. إن العكس من هذا هو الصحيح. فهبوط السجين المتحرر إلى الكهف ورجوعه إلى زملائه الذين لا يزالون مقيدين بالأغلال جزء متمم للحكاية التي يرويها (الرمز). إن السجين المتحرر يرى الآن من واجبه أيضاً أن يحول (عيون) هؤلاء عما يبدو لهم لا متحجبا لكي يرتفع بهم إلى الأكثر لا تحجبا. غير أن السجين المتحرر لا يستقيم له الأمر في داخل الكهف. إنه يتعرض لخطر الوقوع تحت سيطرة الحقيقة السائدة هناك, أي لخطر الوقوع في قبضة (الواقع) الشائع المألوف الذي يعد (في نظرهم) الواقع الوحيد. بل إن السجين ليشعر بأنه مهدد باحتمال قتله, وهو احتمال تحول إلى واقع, كما نعرف من قدر سقراط الذي كان (معلم) أفلاطون). الصفحة (329).
15- (وقد كان أفلاطون هو أول من أطلق الكلمة على معرفة معينة بالموجود تحدد في نفس الوقت وجود الموجود بأنه مثال. ومنذ أفلاطون أصبح التفكير في وجود (فلسفة), لأنه تطلع إلى (المثل) (أو نظر يحاول استشرافها). ولكن (الفلسفة) التي بدأت مع أفلاطون قد احتفظت من بعده بطابع ذلك الذي سمي في وقت متأخر (الميتافيزيقا). وأفلاطون نفسه يقدم لنا الصورة الأساسية للميتافيزيقا في الحكاية التي يحكيها رمز الكهف. بل كلمة (الميتافيزيقا) نفسها قد سبق أفلاطون إلى صياغتها صياغة أولية في رمز الكهف. فعندما يصور لنا ( الجمهورية) تعود النظر على المثل نجده يقول: ( إن الفكر يتجاوز ذلك الذي لا يعرف إلا ومعرفة الظل والانعكاس (ويعلو فوقه) (إلى) هذه, أي إلى (المثل). إنها هي فوق المحسوس الذي يرى من خلال الرؤية غير الحسية, وهي وجود الموجود الذي لا يمكن أن يفهم بأدوات الجسد. وأسمى ما في مجال (فوق المحسوس) هو ذلك (المثال) الذي يوصف بأنه (مثال المثل) ويظل لهذا السبب هو علة ظهور كل موجود وثبات كيانه. ولما كان هذا (المثال) هو علة كل (شيء) فإنه لهذا السبب هو (المثال) الذي يسمى (بالخير). هذه العلة التي تعتبر أسمى العلل وأولها يسميها أفلاطون كما يسميها أرسطو (الإلهية).. (توثيون) ومنذ أن فسر الوجود بأنه (ايدايا) (مثال) أصبح التفكير في وجود الموجود تفكيرا ميتافيزيقا, كما أصبحت الميتافيزيقا لاهوتية. واللاهوت معناه هنا تفسير (علة) الموجود بأنه هو ( الإله) ونقل الوجود إلى هذه العلة التي تحوي في ذاتها الوجود كما تسمح له بالصدور عن ذاتها, لأنها أعلى الموجودات رتبة في الوجود). الصفحة (354-355).
كتاب (نداء الحقيقة),مارتن هيدجر, ترجمة: عبد الغفار مكاوي, 1977, دار الثقافة للطباعة والنشر, بالقاهرة.
التعليقات