الشاعرة التي صنفها الناقد الأدبي وأستاذ علم الإنسانيات بجامعة يال" هارولد بلوم" بأنها ضمن أهم 26 كاتباً وكاتبةً غربيين عبر التاريخ!، كيف أثرت عزلتها على موروثها الأدبي! وما علاقتها بالموت الذي يحتل جزءاً كبيراً من حياتها! ومن هي المرأة الظل!

إيميلي ديكنسون، وأشياء أخرى..

إيميلي إدوارد ديكنسون، شاعرة أمريكية ولدت في القرن التاسع عشر، تحديداً في العاشر من ديسمبر 1830، لأسرة كاثوليكية أمريكية متزمّتة ومحافظة على تقاليدها المتوارثة التي تناقلتها عبر أجيالها المتلاحقة، وهي الأخت الوسطى لأوستن ولافينيا ديكنسون، والدها كان محامياً مشهوراً في بلدة أمهرست ضمن مقاطعة ماساتشوستس – بوسطن، رجلاً سياسياً ووطنياً ذو مكانة رفيعة في الأوساط السياسية والثقافية، وكان والده قد أسس جامعة أمهرست قديماً، وهذه الأمور جعلت إيميلي تعيش في بيئة ثقافية سياسية رفيعة، فقد احتوت مكتب والدها على مكتبة ضخمة تحوي الآلاف من الكتب في مختلف المجالات، فنشأت مطلعةً على العلوم والآداب المختلفة، وقد كانت تهوى بشكلٍ خاص مسرحيات شكسبير - كاتبها المفضل وملهمها الأول كما كانت تقول في رسائلها -، أما والدتها فهي إيميلي نوركروس ديكنسون، سيدة محافظة ولم تكن تُعنى بالأمور الثقافية، فقد كانت تولي مهامها المنزلية جلّ اهتمامها، مما خلق عند إيميلي الشاعرة حالة من الانفصال عن هذه الأجواء وتفضيلها العزلة على الاختلاط.

وقد كان للطبيعة الدينية التي تحيط بالأسرة التي جُبلت عليها نساء هذه العائلة سبباً رئيسياً وعاملاً مهماً في حياة إيميلي، إذ كان من الممنوعات بل من العار كتابة المرأة للشعر ونشره على الملأ بالنسبة لعائلتها، فقد كتبت إيميلي في حياتها ما يزيد عن 1700 قصيدة، ولم يتسنّى لها نشر سوى 11 قصيدة في الجريدة المحلية بأسماء مستعارة، وقد التحقت في بداية حياتها بأكاديمية أمهرست التي تتبع نظاما كاثوليكاً صارماً للغاية.

صوفيّة نيوإنغلند

كما كان يُطلق عليها من أهالي الحي الذي كانت فيه. عاشت إيميلي في جو يحيطه الموت من كل اتجاه، لقد قضت الحمى على الكثير من سكان المنطقة، حتى أنّ صوفيا هولاند إحدى قريبات إيميلي وصديقتها المقربة ماتت بسبب الحمى النمشية، مما شكّل صدمة نفسية قوية لدى إيميلي جعلها أكثر عزلةً ووحدة وخوفاً من القدر المحتوم، حتى أنها قالت في إحدى رسائلها: "يبدو لي أنني يجب أن أموت أيضًا إذ لم يُسمح لي بمراقبتها أو حتى النظر إلى وجهها"، وهنا تقصد صوفيا بالتأكيد.

لقد شكل الموت هاجساً عاطفياً ونفسياً لديها، حتى أنها خلقت صداقة مع الموت من نوعٍ خاص لم يكن معروفاً في الأوساط الشعرية مثل هذه العلاقة أبداً، وهذا أدى إلى تجديد في الخطاب الشعري، وفي العديد من التشبيهات والاستعارات في الشعر الأمريكي المعاصر، ومن خلال قصائدها الكثيرة وهي تقول في إحداها:

لأنني لم أقوى انتظار الموت

هو بلطف انتظرني

توقفت العربة حيث لا أحد سوانا

فقط نحن والخلود

نتهاوى بالطريق – لا عجلة

حيث ابتعدنا

وكذا أوقات شدتي ورخائي،

لما ملكه من كياسة –

(الأعمال الشعرية الكاملة، ترجمة: د. عابد اسماعيل)

جاءت مقطوعاتها الشعرية فريدة من نوعها من ناحية الطرح العميق والمختلف لفكرة الموت، التي صورته على هيئة شابٍ لطيفٍ ينتظرها في عربته عند البحيرة ليقوما بالسفر عبر الزمن، فهو صديقها الحميم الذي لا يراه أحدٌ غيرها وهو في الوقت نفسه لا أحد كما تصوّر نفسها هي أيضاً بأنها لا أحد..

أنا لا أحد! من أنت؟

هل أنت – لا أحد – أيضا؟

إذن هناك زوجاً واحدا منا!

لا تخبر! سيعلنون – وأنت تعرف!

كم هي مملة أن تكون شخص ما!

کم تکون معروفا – مثل الضفدع –

أو تقول اسم شخص – کجون المعمر –

وصل إلى مستنقع الإعجاب!

لقد كان هذا الصديق اللطيف "الموت" يأخذها عبر رحلته إلى الحياة السرمدية، أو ما بعد الموت حيث يقف في كل مرة عند حافة قبرها لترى الطرق المختلفة التي تموت فيها، لقد أوضحت ديكنسون عبر استعاراتها ورمزية الموت في مقطوعاتها الشعرية عن المكنونات الداخلية التي ساهمت في بناء هذه الشخصية الجدلية التي لم تأخذ الشهرة الكافية في حياتها، ولم يسلّط على قصائدها الضوء الكافي الذي تستحقه، فهي كانت على علمٍ بأن الموت آتٍ لأخذها في أي وقت كما قريناتها، لكنها استعدّت للقائه بشكلٍ مختلف عما يستقبله الناس في العادة، لقد أحبّته وانتظرته طوال حياتها على أمل الخلاص، والنفاذ من الوحدة القاتمة التي اعتمت حياتها!

حب من نوعٍ خاص!

سوزان غيلبرت.. اسم كان في غاية الأهمية بالنسبة للآنسة ديكنسون طوال حياتها الأدبية المنعزلة، فقد كانت "سو" هذا الاسم الذي كانت تحب إيميلي أن تناديه بها، هي الناقد والمتذوق الأول والجمهور الوحيد لقصائد إيميلي في البداية، بل ومصدر العاطفة الساحر الذي آمنت به شاعرتنا طوال حياتها، واستقت منه معانٍ عميقة كثيرة، هناك مصادر كثيرة تحدثت عن هذه العلاقة بوصفها غير اعتيادية في الأوساط والمجتمعات الدينية سابقاً، لكن التواصل الروحي بينهما تعدّى هذه التعقيدات إلى ما هو أبعد وأعمق من مجرد عاطفة وليدة اللحظة، كانت حالة من الاندماج النفسي والأدبي والعاطفي بين هاتين المرأتين، حيث كانت سوزان أيضاً تمتلك ذائقة أدبية مرموقة، فضلاً عن كونها كاتبة لها حس أدبي مميز وقد ساعد هذا إيميلي في الكثير من الأحيان على تطوير معانيها الشعرية. وكانت قد تزوجت "سو" فيما بعد من شقيق إيميلي "أوستن" الذي جمعته علاقة حب مع سوزان عندما كانا في الاكاديمية جعلت إيميلي في حالة من الجنون وعدم التصديق، الأمر الذي أثار حفيظتها وجعل تقبلها للأمر صعباً.. وقد وجد أوستن بعد وفاة إيميلي قطعاً شعرية عاطفية موّجهة إلى "سو"، تصف فيها إيميلي شيئاً من تأثير هذه العلاقة في داخلها:

ليالٍ جامحة

لو كنت معكِ

لكان ينبغي أن تكون

الليالي الجامحة نعيمنا

أحاول في الرياح دونما جدوى

أن يرسو قلبي في ميناء

سئمت من البوصلة

سئمت من الخريطة

التجديف في عدن

آم من هذا البحر

لكم أود هذه الليلة

أن أرسو فيكِ

قالت عنها إيميلي في إحدى رسائلها:” باستثناء شكسبير، أخبرتني "سوزان" بمعرفة أكثر من أي شخص آخر على قيد الحياة. أن نقول ذلك بصدق هو مدح غريب.” (Netflix News Staff 2021)

وقد حاول أوستن فيما بعد محو اسم "سو" من رسائل وقصائد إيميلي التي وصلتنا.

العزلة أسلوباً.. كسبيل إلى العبقرية

على مر التاريخ، نجد من البدعين سواء كانوا كتاباً أم رسامين أم عازفين.. خصوصاً ممن نالوا مكانة كبيرة في هذه الأوساط، نراهم يفرطون في العزلة والوحدة أو يتخذونها، منهجاً للحياة، فنرى فرجينيا وولف مثلاً، هي الوجه الآخر لإيميلي ديكنسون في أسلوب حياة اتخذنه سبيلاً للوصول إلى الذروة الإبداعية، وقد يكون عن غير قصد بالطبع، ونذكر في هذا الاتجاه أيضاً الرسام الهولندي الشهير فنسنت فان كوخ الذي تُرك وحيداً، سواء بقرار منه أو بالظروف التي أحاطت به.. جميعهم يشتركون في عزلتهم الصارمة التي أدت لهذا الكمال الفني الذي اشتهر فيما بعد، وقد تركوا إرثاً فنياً وأدبياً عملاقاً، فريداً من نوعه.

هذه الحالة الشعورية من بناء صومعة من التفكير والتأمل والانسلال من الأوساط البشرية قد سمحت لهم بالولوج إلى أعماق النفس الانسانية دون قيود، والتعبير عن كوامن الذات بلا تكلف، بل بشفافية مطلقة أضفت سحراً خالصاً على ما أنتجوه من فن. لقد عاشت إيميلي ديكنسون في عزلة دامت خمس عشرة سنة بين جدران منزلها لا تبرحه أبداً، كانت كالشبح الذي يطل برأسه من النافذة برهة من الزمن ثم يختفي في غياهب اللاوجود، لذلك اتخذت الموت رفيقا لها في كتاباتها وأشعارها، كان قريباً منها للحد الذي جعلها تصفه في جل قصائدها بأنه صديق سيأتي ذات يوم ويأخذها إلى الأبدية حيث السلام والهدوء السحيق.

ماتت صوفية نيوإنغلند بعد تأثرها بمرض الكلى في 15 مايو 1886 تاركةً إرثاً أدبياً يزيد عن الألفي قصيدة، بمعانٍ شكلت ثورة في الشعر الأمريكي الحديث. وستبقى هذه الشخصية الجدلية محط اهتمام النقاد والقراء مدى الدهر.