ارتقى السلم المؤدي إلى سطح عمارة السي عبد المجيد ، و ما إن اجتاز الباب حتى صفعته رياح قوية تصارعه معاكسة إياه ، كأنها تأبى بإصرار أن تدعه يمر ، لكنه رغم ذلك قاوم عنادها بعناد أكبر وفي الأخير انتصر .

ودون تردد وثب بخفة وثبة جعلته فوق حائط الموت القصير وظل واقفا أعلاه مسمرا بثبات وثقة غريبين ثم راح يتأمل أشعة الشمس الذهبية وهي تودعه في الأفق متوارية وراء تلك العمارات العملاقة التي لم يرتح لها قبلا ، فقد أفسدت جمالية المنطقة التي لم يفارقها منذ نعومة أظافره ؛ كل تلك اللوحات الخضراء بهية المنظر اختفت في لمح البصر . وكيف يمكن أن تبدو ثلاثين سنة كاملة مجرد مدة قصيرة من الزمن ؟ لقد عاشها وكأنه لم يعشها ، حتى تأكد اخيرا أن تلك الايام التي كانت تمر مرور الكرام دون أن يبالي بها لم تكن مجرد أيام عادية ماضية بل للاسف قد كانت حياته ، حياته التي أضاعها بيديه ثم مات وهو في ريعان شبابه .

أدى سلوكه هذا الى لفت انتباه الناس من الشارع اليه ، وما هي إلا دقائق معدودة حتى اجتمع جمهور من المشاهدين امام عمارة عبد المجيد وهو صاحب شركات متعددة في شمال إفريقيا ، وقد كان السبب الرئيسي في فساد القرية وتحولها الى شبه مدينة مقززة المنظر ، امتزج فيها ما هو حديث و قروي جاعلا منها حلبة صراع بين اسلوبي عيش مختلفين . 

تصاعد الضجيج امام المبنى فخرج أحد الموظفين مستطلعا ، وما هي إلا ثوان قليلة من التحديق في السماء حتى عاد مسرعا ونادى بعض رفاقه من العمل وانطلقوا يسابقون الرياح نحو السطح . عند وصولهم تاكدوا أن مهمتهم لن تكون بالسهلة أبدا ، فقد أغلق باب السطح الصلب بإحكام من الداخل ولن يستطيعوا أبدا فتحه في الوقت المناسب . وفي الاسفل وصل فريق الاطفاء بعتادهم وشاحنتهم المجهزة بسلم طويل لإنقاذ الموقف ، لكن كل هذا قد لفت اخيرا انتباهه فصرخ بهم قائلا : "لو تجرأ أحدكم واقترب مني سأرمي بنفسي دون تردد ، فقط دعوني استمتع بالغروب وذكريات الزمن الجميل" .كان هذا التهديد سببا كافيا لكي يتجمد رجال الاطفاء في أماكنهم منتظرين مترقبين كباقي الناس ممن حاولوا إقناعه عن العدول عن قراره هذا ، فلم ينجحوا ولن ينجحوا فهو مصمم وتصميمه من حديد . 

ودعت الشمس القرية مخلفة وراءها جوا من الكآبة والحيرة ، فرمى الرجل بجسده في استسلام ، لكنه سرعان ما أحس بتردد وندم غريبين ، لم يعرف لهما سببا ، ثم صارح نفسه متمنيا لو اتيحت له فرصة اخرى للتراجع عن فعلته هذه، لكنه ابتسم فجأة بعد أن تراءت له أشباح تحوم حوله مربتةً على كتفيه ، بالكاد استطاع التعرف على البعض منها ، وكيف لا يستطيع التعرف عليهم وهم عائلته ، أمه ، أبوه ، أخواه ، كلهم هنا ، و آخرون حتما ممن اختاروا طريق الجهاد و النضال مثله. ارتاح لكل هذه الأوهام و أغمض عينيه في استسلام ، فجأة اخترقت حزمة ضوئية كل تلك الأوهام وبددتها في لمح البصر لتتيح له فرصة لتأمل جمال بدر أضاء القرية كلها ، أراد متابعة النظر أكثر لكن كل ما حوله تحول إلى ظلام دامس غريب ، حاول تحريك أطرافه لكنه لم ينجح عندها تأكد أنه انتقل إلى عالم آخر غير الذي عهده ؛ لقد فارق الحياة مبتسما بوجه بشوش و هو على ثقة بأن الرسالة قد وصلت . فما يخرج من القلب نقيا سيصل إلى القلوب عاجل أم آجلا