اعتبر هذا الكتاب توثيق لوجهات نظر ابن الجوزي وأفكاره وتأملاته في النفس البشرية، وعلاقة هذه الأفكار والنفس البشرية بالدين وتوجيهات الله سبحانه وتعالى للإنسان، والتي فيها سبب نجاته وفلاحه في الدنيا والآخرة

نبذه عن الكاتب

عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي، أبو الفرج ابن الجوزي ويقع الكتاب في مجلد واحد بعدد صفحات سبعمائة وسبع وثمانين صفحة

نبذه من الكتاب

تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها. ثم نظرت في المعمور منها فوجدت الكفار مستولين على أكثره، ووجدت أهل الإسلام في الأرض قليلا بالإضافة إلى الكفار. ثم تأملت المسلمين فرأيت المكاسب قد شغلت جمهورهم عن الرازق، وأعرضت بهم عن العلم الدال عليه.

فالسلطان مشغول بالأمر والنهي واللذات العارضة له، ومياه أغراضه جارية لا شكر لها. ولا يتلقاه أحد بموعظة، بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس. وإنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها. كما قال عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: (إذا رأيتني قد حدت عن الحق فخذ بثيابي وهزني، وقل: مالك يا عمر؟).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا). فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظ، السلطان. وأما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى، وزينة الدنيا، وقد انضاف إلى ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يؤلمهم ذنب، ولا ينزعجون من لبس حرير، أو شرب خمر، حتى ربما قال بعضهم: (إيش يعمل الجندي، أيلبس القطن؟).

ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع. وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل، وكذلك أهل القرى. ما أكثر تقلبهم في الأنجاس وتهوينهم لأمر الصلوات، وربما صلت المرأة منهن قاعدة.

ثم نظرت في التجار، فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت، وصار الربا في معاملتهم فاشيا، فلا يبالي أحدهم من أي تحصل له الدنيا؟ وهم في باب الزكاة مفرطون، ولا يستوحشون من تركها، إلا من عصم الله.

ثم نظرت في أرباب المعاش، فوجدت الغش في معاملاتهم عاما، والتطفيف والبخس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل. ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلبا للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه وما يتأدب به.

ثم نظرت في أحوال النساء، فرأيتهن قليلات الدين، عظيمات الجهل، ما عندهم من الآخرة خبر إلا من عصم الله. فقلت: واعجبا فمن بقي لخدمة الله عز وجل ومعرفته؟ فنظرت فإذا العلماء، والمتعلمون، والعباد، والمتزهدون.

فتأملت العباد، والمتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده وكثرة أتباعه، حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل لئلا ينكسر جاهه. ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى ألا يعودوا مريضا، ولا يشهدوا جنازة، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم. ولا يتزاورون، بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاء، فقد صارت النواميس كالأوثان يعبدونها ولا يعلمون

وفيهم من يقدم على الفتوى وهو جاهل لئلا يخل بناموس التصدر ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا ولا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه، إلا تناول المباحات. ثم تأملت العلماء المتعلمين، فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به.

وجمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب، إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد، أو قدر ما يتميز به عن أبناء جنسه لم يكتفي. ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى ويستخدمه، فهو يؤثر ما يصده العلم عنه، ويقبل على ما ينهاه، ولا يكاد يجد ذوق معاملة الله سبحانه، وإنما همته أن يحدث وحسب.

إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة، جامع بين العلم والعمل. غارف بحقوق الله تعالى، خائف منه. فذلك قطب الدنيا، ومتى مات أخلف الله عوضه. وربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة.

ومثل هذا لا تخلو الأرض منه، فهو بمقام النبي في الأمة. وهذا الذي أصفه يكون قائما بالأصول، حافظا للحدود، وربما قل علمه أو قلت معاملته. فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم، فيكون في الزمان البعيد منهم واحد.

ولقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة: أولهم الحسن البصري، وثانيهم سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل. وقد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتابا، وما أنكر على من ربعهم بسعيد بن المسيب.

وإن كان في السلف سادات إلا أن أكثرهم غلب عليه فن، فنقص من الآخر، فمنهم من غلب عليه العلم، ومنهم من غلب عليه العمل، وكل هؤلاء كان هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم، والنصيب الأوفى من المعاملة والمعرفة. ولا يأس من وجود من يحذو حذوهم، وإن كان الفضل بالسبق لهم. فقد أطلع الله عز وجل الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام. فخزائن الله مملوءة، وعطاؤه لا يقتصر على شخص.

وقد حكي لي عن ابن عقيل أنه كان يقول عن نفسه: (أنا عملت في قارب ثم كسر). وهذا غلط فمن أين له؟ فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك وكم من متأخر سبق متقدما، وقد قيل: إن الليالي والأيام حاملة وليس يعلم غير الله ما تلد.