السلام عليكم...

عدت إليكم من جديد، لأعرض على حضراتكم المقتطف الثاني من روايتي التي عنونتها بإسم " جمهورية بروكا و فيرنيكه "

أتمنى أن تستمتعوا بقراءة هذا المقطع،كما أرجوكم ألا تبخلوا علي بتعليقاتكم...

شكرا...

" مثل كل صباح جميل، صاحت ديكة المدينة بصوتها الخاشع تدعو الجميع إلى الاستيقاظ. و أشرقت شمس نهار جديد على سكان " بروكا و فيرنيكه"،  اخترقت أشعتها الدافئة أجواء سماء المادة الرمادية، و عانقت بمنتهى الحنان كل الوجوه البشوشة التي استقبلتها.

لم يكن هناك أي شيء ليدل على أن هذا اليوم مختلف عن سابقيه. لا شيء يدعو إلى الريبة، فالحياة على طبيعتها العادية. خرجت المفردات الصغيرة متوجهة إلى مدارسها النحوية، بعد أن قبلتها أمهاتها على الجبين المشكول.

 متاجر الصرف و التحويل بدورها مفتوحة منذ ساعات الصباح الأولى، و صفوف الانتظار الطويلة تسد الشوارع المؤدية إليها: أفعال ثلاثية و أخرى رباعية، أفعال متعدية و أخرى لازمة، كلهم طامعون في أن يصرفوا أحوالهم بأحسن صيغة.

 حتى الباعة المتجولون لم يتخلوا عن تجارتهم، بل إنهم يطوفون كعادتهم بين زقاق الحارات و يقطعون أغلب الأخاديد، تترقبهم النسوة بأحر من الجمر، يعرضون عليهن آخر أتواب "الدارجة" و أحدث أقمشة " العامية".

 أما أحفاد الأمازيغ و رغم قلتهم و اختلافهم  الثقافي عن الآخرين، و هم المشهورون بصياغة حلي الكلمات الفضية و مجوهرات الكلام الذهبي، لم يغلقوا محلات صياغتهم التي تزدحم بالزبائن من مختلف القبائل.

مالت الشمس من شدة تعبها فاتكأت على جدار المغيب. أرهقت أشعتها من كثرة تنقلها بين أرجاء البلاد. استأذنها الليل بظلامه، فأذنت له بالدخول عبر بوابة الغروب. استلم القمر الرمادي عدة الحراسة، لكن سرعان ما حاصرت جيوش النوم العميق عينيه الغائرتين.

ما أن انكشفت الغيوم عن البدر المكتمل، حتى سمع الناس دوي المدافع المرعبة و طلقات الرصاص العشوائية. انتشرت في الأجواء رائحة البارود الخانقة التي سدت الأنوف. رأوا بأعينهم زخات القذائف و هي تتساقط على البنايات.

شاهدوا الجنود الغزاة و هم يحاصرون مداخل الحارات، و لاحظوا كيف أنهم أحاطوا كل مؤسسات الدولة بمئات من العساكر المدججين بشتى أنواع الأسلحة. ما الذي يحدث؟ و منهم هؤلاء الجنود؟ و ماذا يريدون من سكان هذه الدولة؟

*****

 في أعلى نقطة من هضبة فيرنيكه، يتراءى قصر رخامي كبير ، تتلألأ أضواءه منافسة بريق النجوم، بشكله المخروطي النادر و بأبراجه العاجية العالية. من نوافذه المستديرة استدارة السكون تتسرب روائح العود العربي النفيس.

كان القصر الرئاسي عنوانا للفخامة و البذخ، معلمة من عجائب الدنيا الدماغية. يأتيه القاصي و الداني لمجرد أن تعانق عيونهم جمال ذلك الصرح البديع.

هناك... يقطن الرئيس الشرعي للبلاد، السيد " ضاد"، رجل شهم نبيل، في أواسط الأربعينيات, ذو نسب عربي عريق، محترم من جميع المواطنين بسبب نزاهته و دماثة أخلاقه. ليلتها... كان في مكتبته يطالع كعادته " ألفية ابن مالك"، يرتشف من فنجان القهوة العربية الساخنة، و يحفظ متونها واحد تلو الآخر... إلى أن فتحت باب مكتبته المقوسة تقوس الشدة و دخل منها أحد رجالاته لاهثا.

******

لم يكن قد التقط أنفاسه بعد، وجه السيد " همزة" كلامه منذرا إلى رئيس البلاد. كان القائد الميداني لجيش " بروكا و فيرنيكه" النظامي. رجل أربعيني، قوي البنية، مفتول العضلات، ذو باع طويل في التدريبات العسكرية.

- سيدي الرئيس...سيدي الرئيس ضاد... لقد تعرضت بلادنا لهجوم عدواني من قبل القوات الفرنسية الغاشمة.

 - معقول !؟ يا لها من مصيبة ! كيف حصل هذا الأمر الجلل؟ ما الذي حدث بالضبط؟

- لقد باغتونا يا سيدي الرئيس. هاجمتنا دباباتهم المصفحة من ناحية الأذن اليسرى . أطلقوا علينا القذائف المدمرة من طراز "حصص اللغة الفرنسية" ، فتهاوت دفاعاتنا الحدودية ثم اخترقوا النفق الجنوبية المؤدية إلينا رغم حقول الألغام الصملاخية.

 داهمونا أيضا من جهة الأذن اليمنى، أمطرونا برصاص الرشاشات الآلية من عيار " الكتب المدرسية الفرنسية"، ثم ولجوا النفق الشمالية حتى عبروا حدودنا و توغلوا في بلادنا.

 لم يقفوا عند هذا الحد يا سيدي الرئيس، بل أغاروا علينا على مستوى منطقة العينين بأحدث الطائرات المقاتلة من طراز " إف- فرنسي ١٦. "بمنتهى السهولة تمكنوا من تدمير كل ثكناتنا، فصارت الطريق مؤمنة و توغلت كتيبة المشاة حاملة لواء ثلاثي الألوان " أحمر- أبيض- أزرق"...

 إنهم يفوقوننا عدة و تعدادا يا سيدي الرئيس ! ٢٦ كتيبة مقاتلة، مجهزون بأحدث الأسلحة اللغوية، على رأس كل كتيبة جنرال من أولئك الذين شاركوا في احتلال المستعمرات الفرنسية في إفريقيا... و فوق هذا كله، فإن قائدهم هو السيد المجهول " إيكس"... من ارتكب عشرات المجازر اللغوية.

- هل انتهت المعارك؟ إلى أي حد وصلت القوات الغازية؟ سأل سؤاله هذا و العرق يتفصد من جبينه.

- المعارك لم تنته بعد، فجنودنا البواسل لا زالوا يقاومون بكل ما أتوا من قوة. لكن عدد الشهداء مهول، و الأهول منه عدد الجرحى. كما أن مخزوننا من الذخيرة اللغوية على وشك النفاد.

لقد توغلت القوات الفرنسية على بعد كيلومترات من الشريط الحدودي. إن استمر الوضع على هذا المنوال، فسنهزم بكل أسف يا سيدي الرئيس.

شهق شهقة عميقة كادت تقطع أنفاسه،ثم طأطأ رأسه مخفضا عينيه المكسورتين نحو الأسفل.

- ما الخيارات المتوفرة لدينا يا سيد " همزة" ؟

- سيدي الرئيس " ضاد"، حسب المعطيات الميدانية المتوفرة لدينا،و نظرا لما تكبدته جيوشنا من خسائر بشرية و مادية فادحة، فنحن أمام خيارين أحلامها مر : إما مواصلة القتال حتى النهاية، و هذا الخيار بمثابة الانتحار، و إما مفاوضتهم على شروط الاستسلام و هذا هو الخيار العقلاني.

- غير معقول ! أفضل الموت على الخيار الثاني...

******

اتفاقية استسلام جمهورية " بروكا و فيرنيكه"

نقر نحن الموقعون أدناه، ممثلين عن برلمان جمهورية "بروكا و فيرنيكه" و عن القوات الفرنسية، بالاتفاق على جميع شروط و مواد اتفاقية الاستسلام، و التي تنص على ما يلي:

 المادة الأولى:

بموجب هذه الاتفاقية، تستسلم جميع قوات الجيش النظامي ل"جمهورية بروكا و فيرنيكه" و تسلم أسلحتها و عتادها الحربي للقوات الفرنسية.

يلتزم الأفراد الموقعون على هذه الاتفاقية بتسليم مفتاح القصر الرئاسي للسيد المقيم العام الفرنسي.

المادة الثانية:

تتعهد القوات الفرنسية بعدم الاعتداء على المدنيين و على كل من لا يحمل السلاح ضدها، كما تلتزم بحماية ممتلكاتهم من النهب و التخريب.

المادة الثالثة:

تمنح للقوات الفرنسية منطقة خاصة من أجل إنشاء مستوطنات للمستوطنين الفرنسيين، تقدر مساحتها بربع مساحة جمهورية "بروكا و فيرنيكه".

 ترسم حدود المنطقة الفرنسية بالتنسيق مع أعضاء البرلمان الموقعين لهذه الاتفاقية.

المادة الرابعة:

تتحكم القوات الفرنسية بشكل حصري بمناجم و مقالع و مصانع جمهورية "بروكا و فيرنيكه". كما تخضع جميع عمليات الاستيراد و التصدير، على مستوى موانئ و مطارات الجمهورية، إلى سيطرة و مراقبة الجمارك الفرنسية.

المادة الخامسة:

ابتداء من تاريخ توقيع هذه الاتفاقية، تصبح اللغة الفرنسية اللغة الرسمية للبلاد.

بركان، ١٢ مارس ١٩٩٦

الموقعون من الطرف البروكي:

السيد " خاء"، رئيس البرلمان

السيدة " تاء"، وزيرة الخارجية و التعاون.

الموقعون من الطرف الفرنسي:

السيد " إيكس" ، القائد الأعلى لأركان الحرب العامة.

السيد " أبو ستروف"، قائد الاستخبارات العسكرية. "

******