استيقظت بعد نوم مضطرب أكثره ارق وما تبقى منه قلق

الطقسُ كئيبٌ اليوم بردٌ ترتجف له العظام و أمطارٌ قاسية على الذاكرة .. دوي أصوات الطائرات البعيد يزيد القسوة قسوةً واللوحة المرمية في المطبخ لوجه انثى لم يكتمل لقاءها تزيد المشهد جنوناً.

اليوم الخميس ليلة رأس السنة لدي موعدٌ مع الطبيب النفسي بعد ان طلبني وبشكلٍ مستعجل حاولت التملص منه لكنني فشلت

هكذا باتت الأيام أحاول التأقلم مع حبوب الاكتئاب الجديدة دون فائدة وما طلبه الطبيب مني بالتوقف عن الرسم كان جنوناً غير قابل للتطبيق

بدأت بالتحضير للذهاب للعيادة:

بنطال جينز و كنزة صوفية سوداء وحذاءٌ صيفي لا أملك غيره .. محاولاً مجابهة برد العاصمة به

أخذت الدواء قبل الخروج واشعلت سيجارة من النوع الرديء جداً وانطلقت

قبل أن انسى

توقفت عن العمل منذ مدة عام لم تعد لدي رغبة بالعمل لساعات طويلة قررت التفرغ للرسم ولكن ريشتي خانتني كما الذاكرة

اعمل الأن من حينٍ الى حين بمكتبة الحي المجاورة للمنزل كتمضيةٍ لليوم و لتأمين حاجاتي الأساسية من طعام ودخان وكحولٍ أجابه به حرب المدينة وجنونها.

..

مشهد ١

  • لقد أخبرتني منذ مدة أنك تعاني من قلقٍ مزمن !

صحيح يا دكتور وجلوسي معك الان يزيد من قلقي .. لا أعلم ولكن أشعر بجنون هذه الصفقة ان تستمع لما يجول في مخيلتي فتعطيني حبوباً تزيد المشهد خيالاً

  • هل انتهيت من رسمتكَ الأخيرة ؟

تقريباً لقد انتهيت من الوجه و الجسد ولم يتبقى سوى روحها .. يا الله على تلك الروح...

  • أريد ان أخبركَ بشيء بعد جلساتنا العشر التي مرت

انت تعاني من هوس بالتفاصيل .. وخيالٍ تظنه حقيقة .. إن وضعك الأن غير خطر لكن الحالة قد تتطور لذلك علينا ان نزيد من جرعة الأدوية لتفادي الكارثة و الانهيار.

لا مانع دكتور فلنزيد الجرعة لكن لا تتوقع نتيجة مغايرة ..

قلتها وخرجت من العيادة

كانت الساعة تقترب من التاسعة مساءً والبرد يزداد وكأننا في شتاءٍ سيبيري

للحظة اكتشفت أكذوبة دفء دمشق وحرارة الحب بأزقة باب شرقي

دمشق مدينة مبهمة التفاصيل يصعب فهمها

بسكانها وعماراتها العشوائية المتلاصقة .. بقططها الخائفة و كلابها المتسولة بسرافيسها الحقيقية التي تكلمت بوجع شعبها أكثر مما فعله مجلسها وفقرها المنتشر بكل زقاق وغناها الفاحش المبكي في أزقةٍ محدودة.

دخلت من جهة قوس باب شرقي كان المشهد رهيباً بقساوته أطفالاً يلتحفون أحجاراً تاريخية ونساءٌ يبيعون أجسادهن ببضعة آلاف .. السكارى يملؤون الحي

ضجيج الحانات و المراقص

رجال الأمن يملؤون المنطقة .. الخوف من المجهول و الرعب الحقيقي من كل ما هو معلوم!!

قذيفة طائشة أو سيارة مفخخة كان الهوس الأكبر للجميع!

..

كما هي العادة اتجهت نحو خمارةٍ صغيرة في منتصف شارع الحانات كانت الطاولات الأربع فارغة فهذه الخمارة كما كان يسميها صديقي خالد ليست مقصداً للرقص في مثل هذا اليوم

دخلت واخذت الطاولة التي في الزاوية تلك الطاولة المفضلة البعيدة عن ضجيج المدينة و المليئة بتفاصيلٍ حقيقية وذكريات لنساءٍ عرفتهم هنا وبقيت معرفتهم هنا

وأصدقاءٍ تركوا دمشق بحثاً عن حياة في أوروبا لكن بعضهم فشل بالوصول فكان البحر ملجأً له

وأخرون هنا في المدينة لكنهم غادروها و غادرتهم.....................

أخذت مشروباً شعبياً و أشعلت سيجارة جديدة

سانداً ظهري الى الحائط بعد يومٍ مجنون .. أخذت نفساً عميقاً وبدأت بتأمل المكان برفقة الملل مع ازديادٍ غريبٍ بنبضات القلب المتعب.

كان المشهدُ جنائزياً بتفاصيلهِ لكنه مغرياً:

حانةٌ صغيرة .. إضاءة صفراء خافتة تعكس المشهد على الجدران المعتقة بالذكريات .. طاولاتٌ خاوية مجبولةً بنبيذ السنين ..

رنين بحيرة البجع تتكرر منذ ساعتين وربما أكثر .. صوت المطر على الباب الخشب .. صفير الهواء يلوح كموتٍ قادم ..

انفجاراتٌ تهز دمشق وتكمل الصورة لكن بوحشيةٍ أكبر..

كان الناس يعبرون بسرعةٍ من أمام الباب يلقون نظرة فلا يرون سوى رجلٍ واحد فتتعالى الضحكات

واستمرت الحالة لساعتين من الشرب المتواصل وتبادل النظرات مع الغرباء في المدينة حتى فاجأتني أنثى ودخلت الحانة وجلست في الزاوية المقابلة لي وطلبت مشروباً شعبياً بشكلٍ مستعجل وبدأت تتأمل الباب الخشب والمارين من خلفهِ

كان البرد يزداد و الثلوج بدأت تتساقط كأنها تتراقص على انغام تشايكوفسكي القادمة من راديو قديم

استرقت نظرة نحو الزاوية المقابلة .. بدت لي أنثى في أواخر العشرينات تفاصيلها غريبة .. ملامحٌ مجنونة .. عطرٌ أنثوي ملأ المكان فعانق الخشب المحيط بنا .. أحمرُ شفاهٍ معكوسٍ على كأسها الأبيض .. وسجائر اشتعلت من حرارة المشهد

ذهبت للساقي لأطلب كأساً جديداً!

التفتت لي وابتسمت بعفوية وكسرت صمت المكان ..

  • شتاءٌ قاسٍ

نعم قاسٍ على الجسد و الذاكرة! يشبهُ دمشق كثيراً

عدت لطاولتي بخطواتٍ مثقلة

كنت مستغرقاً بذكرياتي أحاول تركيب صورة أنثى بمخيلتي لكن الكحول كان يمنعني من ذلك فأعيد استراق النظر لهذه الأنثى غريبة الحضور

  • هل تمانع إن جلسنا على ذات الطاولة! كسرت الصمت مجدداً

بالتأكيد لا أمانع .. تفضلي

طلقات رصاص جنونية بدأت بالمنطقة و الأصوات تعالت وصخب المدينة بازدياد

يبدو اننا دخلنا في العام الجديد

  • ابتسمتْ وقالت عام جديد!!

ما اسمكِ؟

  • مطر

مطر !!! جميل أتعلمين منذ عام بدأت برسم لوحة لأنثى لا أعرفها أطلقت عليها اسم مطر انتهيت البارحة من رسم وجهها و جسدها ولم يتبقى سوى روحها .. يا الله على تلك الروح التي لم تكتمل!

  • قالت بنبرةٍ حادة .. حتى ولو لم تجد روحها .. فهذا ليس خطأك إنه الليل القاسي هذه الليالي الدنيوية القصيرة تبث في نفس المرء خوفاً من ليلٍ بروحٍ أبدية!

كافكا؟

  • وهل هنالك من سيكمل المشهد غيرهُ

  • منذ ان دخلتُ الى هذه الخمارة وانتَ تبتسم مع تشايكوفسكي ما الذي تعنيه لكَ بحيرة البجع

لقد غرقتُ بها منذ سنين والجمود الذي بنته داخلي قاتل .. أحاول نسيان ما جرى ولكنني أفشل دائماً كلما رسمتُ لوحة على تلك الأنغام

لماذا انتي وحيدة اليوم؟

  • انا مثلكَ تماماً تعلقت بالسمفونية التاسعة

فأصبحتُ رهينةً لبيتهوفن .. لقد أحببتهُ ولكنني وصلتُ الى حافة الجنون معه!

هذا المكان الصغير هو كل ما تبقى لي .. خانتني البلاد مراراً ولا مكان لأن اغفر سوى هنا.

..

كانت باب شرقي في هذه الاثناء تشتعل بالاحتفالات العشاق يتبادلون القبلات فرحاً بدخولهم بالعام الجديد سويةً

اصوات الاغاني و الموسيقى في كل مكان

الثلج يغطي الشوارع وانعكاسه على زجاج الخمارة مخيف وكأنه خلال ساعاتٍ سيغرقنا.

..

مطر!

هل نستطيع اكمال الليلة سويةً؟

  • تغيرت ملامح وجهها .. ماذا!

أقصد أن نقضي ما تبقى من الليل هنا نسكرُ ونتبادل الحديث حتى الصباح .. لا استطيع الذهاب الى المنزل .. للمرة الاولى اخشى من روح تلك اللوحة .. أعتقد انها ستقتلني اليوم.

أخاف الأشياء التي تلامس قلبي يا مطر .. لذا أهرب منها دائماً ..

  • كافكا؟

قلتِ أنه ما من أحد سيكمل المشهد غيرهُ!

  • أنتَ محتال .. توقف الأن عن هذه الثرثرات .. أريد رؤية اللوحة! 

يتبع....