تتجلى الدولة بوصفها كليةً عقليةً في توحد المتناقضات فيها «فإذا كانت الأمة هي الكلي أو السلب الأول. فإن الدولة هي سلب السلب أو الفردي الذي تتحد فيه المتناقضات وتتوازن فيما بينها».([1]) وسلب السلب عند هيغل غير ما يقصده المنطق الصوري؛ إذ إن السلب عنده ينتهي إلى إيجاب، لكنه إيجاب غير الإيجاب الأصلي الذي تم سلبه (الدولة بالمقارنة مع المجتمع المدني والأسرة). إن الدولة وحدة عضوية غير الوحدات الأخرى؛ أي أنها فردية عينية، أما من حيث السيادة فهي تتحقق في شخص الملك. وعلاوة على هذا «لا تكون الدولة دولة إلا إذا تعارضت وارتبطت بغيرها من الدول»؛([2]) تتجلى هنا صفة استقلال الدولة، وهذه الصفة هي التي تعطي للشعب كرامته وحريته. ولكن دمج دولتين في دولة واحدة «سيؤدي إلى فقدان الدولتين روحهما وكيانهما الحقيقيّ الجوهري.»([3]) بيد أن استقلال دولة ما يحتاج بالضرورة فرداً واحداً على رأسها.
وفي علاقة الدولة بالدول الأخرى، يقول هيغل إن السلب يصير في هيئة خارجية، بسبب تشابك الأحداث بين الدول، بحيث تعتمد الدولة الفردية على سلطتها المطلقة، والأشياء المتناهية فيها، في سبيل وحدتها واستقلالها؛ نعني بذلك «التضحية». وفي هذا الصدد، يصف هيغل الحرب بالضرورة، وليس مجرد حدثٍ عارضٍ، هذا «إذا ما نظرنا إلى هذه الأمور في ضوء الفلسفة والفكرة الشاملة، لأن الفلسفة تعرف أن العرضيّ مظهر [متناهٍ]، وترى الضرورة في قلب ماهيته»،([4]) ومن ثم فالجوهر الأخلاقيّ للدولة يسلب قوة الطبيعة، ليجعل من الضرورة منبعاً للحرية؛ أي أن التضحية بالمتناهي تصبح مقبولة، فضلاً عن أنهاَ واجب عام.
وفيما يخص مسألة الحرب، يقول هيغل إن: «فساد الأمم قد يوجد نتيجة لفترة طويلة من السلام دع عنك السلام الدائم [في إشارة إلى كانط]».([5]) وقد شبه هيغل الحرب بحركة الرياح التي تحفظ البحر من التلوث، لكنه في نفس الوقت يشك في وجود مبررات حقيقة للحروب الماضية، ويجعل مثالية الحرب في كونها علاقة لحظية وعارضة بين الدول، وتقودها أسباب حقيقية، مثل الكفاح من أجل الاستقلال، كما أـن الانتصار في الحرب يعني تعزيز وحدة وسلطة الدولة، ومنه الحفاظ على حرية الجميع، لكن في نفس السياق يمكن للدولة أن تكون مستقلة ومستمرة بوسائل أخرى. ويخصص هيغل الجيش لحل النزاعات الجزئية، أما إذا كان الخطر يهدد استقلالية الدولة، عندها تنقلب الحرب من حالة الدفاع إلى حالة الغزو، وعلى خلاف إيمانويل كانط (Immanuel Kant) (1724 - 1804) الداعي إلى «مشروع السلام الدائم»،([6]) أكد هيغل على أهمية «الجيش الدائم» في الدولة، بل حوله إلى طبقة تتسم بالخصوصية والضرورية، مهمتها الدفاع عن الدولة. أما «نفقات الجيش الدائم، وما ينتج عنه من زيادة في الضرائب(...)لها في وعي المجتمع المدني وزناً أعلى جداً مما هو ضروري ذاته ولذاته»؛([7]) لأن الاستقرار والأمن يستحق ما يبذل فيه من أموال.
وفي وظيفة الشجاعة، ينتقل هيغل إلى الحديث عن قيمة الشجاعة بالنسبة إلى الجندي، ويربطها بالغاية المطلقة (سيادة الدولة)، وإن لم تتجسد هذه الغاية في ذهن الأفراد، بيد أن ما يصحب هذا العمل الشجاع هو الطاعة المطلقة، والتضحية بالنفس؛ يقول هيغل في هذا الصدد: «أَنْ يعرض المرء حياته للخطر أفضل بكثير من الخوف من الموت، لكن ذلك لا يزال أمرا سلبياً خالصاً(...)لأن الجانب الإيجابيَ الذي هو الغاية والمضمون هو أول ما يضفي المعنى على هذه الشجاعة».([8]) ومنه فالمضمون هو ما يميز بين هذه الشجاعة، وشجاعة المجرمين؛ وعلاوة على هذا، الدولة عند هيغل لا تستهدف أفراداً، بل جماعة معادية لها، بحيث تتمثل الشجاعة في صورة كلية.
وبحكم أن الدولة فردية، فهي تراقب دول الجوار، وهنا، جعل هيغل صلاحيات الملك متعددة، ومحورية، بوصفه صاحب القرار النهائيّ في أي تدخل يطال دولة من الدول؛ فتقام المعاهدات باسمه. وعلى هذا المنوال «يتخذ الحق بين الدول شكل المعاهدات. والقانون الدولي الذي يقوم على العُرف _أكثر مما يقوم على سلطة مركزية_ ويقصد به التخفيف من ويلات الحرب وإمكان استعادة السلام».([9])
[1] يوسف سلامة، مفهوم السلب عند هيغل. م. م. س. ص 352.
[2] ميخائيل انوود، معجم مصطلحات هيغل. ترجمة إ.ع.إ. (المشروع القومي للترجمة)، ص 521.
[3] عبد الرحمان بدوي، فلسفة القانون والسياسة عند هيغل. م. م. س. ص 213.
[4] هيغل، أصول فلسفة الحق. م. م. س. ص 589.
[5] المصدر نفسه، ص 590.
[6] هو عنوان كُتيّب للفيلسوف الألماني إيمانويل كانت ظهر في عام 1795، قدم كانت في هذا الكُتيب مشروعًا للسلام لكي تنفذه الحكومات. ووصفت البنود التمهيدية تلك الخطوات التي يجب اتخاذها بشكل فوري أو على وجه السرعة، كما ضم الكتيب ثلاث مواد نهائية لا تسمح بتوقف الأعمال العدائية فقط، بل إنها تعتبر بمثابة الأساس الذي يبنى عليه السلام.
[7] هيغل، أصول فلسفة الحق. م. م. س. ص 592.
[8] المصدر نفسه، ص 593.
[9] ميخائيل انوود، معجم مصطلحات هيغل. م. م. س. ص 521.
رابط المقال:
التعليقات