يستعرض هيغل في حديثه عن الدستور بعض الآراء المخالفة له، بدءاً من ألمانيا نفسها، حيث اعتمد البعض على الدين بوصفه أساساً للتفكير، والنتيجة كانت انصراف الناس العقلاء إلى مواضيع أخرى لا تهتم بالدستور، إضافة إلى ذلك، نجد من ينكرون معرفة الحقيقة ويمقتون كل محاولة لمعرفتها. هنا، يقول هيغل إن على هؤلاء جميعاً عدم الخوض في هذه المواضيع؛ إذ «يكون الدستور عقلياً بمقدار ما تتميز به الدولة، داخلياًّ، وتحدد نشاطها طبقاً لطبيعة الفكرة الشاملة».([1]) والحال أن هؤلاء الذين يتخذون من إلهاماتهم وحبهم مرجعا لهم، لن يقدروا كذلك على فهم فكرة «الفصل بين السلطات»؛ إذ هي، حسب هيغل، لحظة «التعيين العقلي». سيعالج هيغل هذه الفكرة انطلاقا من الفكرة الشاملة، حيث إن «الكليّ والجزئيّ والفرديّ ليست ثلاث مقولات وإنما هي ثلاث لحظات لمقولة واحدة، هي مقولة الفكرة في ذاتها، وبالتالي فلحظات الفكرة لا تنفصل [وكذلك السلطات]».([2]) وفي مقابل هذا نفى هيغل أي دور لدروس المنطق الشائعة في الكشف عن هذه الفكرة. وقَسَّم هيغل مكونات الدولة إلى ثلاثة أقسام: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والتاج (الملك).
يعتبر القسم الثالث رأس السلطة؛ وفي هذا الصدد يقول هيغل إن: «الشكل السياسيّ الأول الذي نلاحظه في التاريخ هو نظام الحكم الاستبدادي، والثاني هو نظام الحكم الديمقراطيّ الأرستقراطيّ، والثالث هو نظام الحكم الملكي».([3]) يمثل هيغل هذه الأنظمة الثلاثة من حيث العدد: بالملك، والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية (الحكم الديمقراطي)، فضلا عن سطحية هذا التقسيم، نجد حديثاً عن دمج الأرستقراطية والديمقراطية في النظام الملكي، غير أن الملكية لم تعد منهم في شيء حسب هيغل. وفي هذا الصدد، كان من اللازم على هيغل استحضار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، صاحب كتاب «روح القوانين» (1748)، هذا الأخير يرى أن مبدأ الديمقراطية هو الفضيلة، وأن مبدأ الأرستقراطية هو الفضيلة السياسية التي تتخذ شكل الاعتدال؛ وعليه يرى هيغل أن المبدأ الأول قائمٌ على الشعور، ومن تم، «علينا أن نفترض أن هناك تعارضاً وعدم اتفاقٍ بين الفضيلة والقوة المتعينة للدولة التي تُنظم أقسامها تنظيماً تاماً»([4])؛ والثاني «يعني أننا منذ البداية نفصل، عند هذه النقطة، بين السلطة العامة والمصلحة الخاصة.»([5]) أما في ما يخص مبدأ النظام الملكي، فقد حدده مونتسكيو في «الشرف». هنا أشار هيغل إلى أن مونتسكيو فهمه على أساس أنه النظام الملكيّ الإقطاعيّ، الذي يحكم فيه الأشخاص من منطلق الشرف وليس الواجب، ومن ثم تصبح الدولة قائمة على آرائهم المتقلبة.
تبعا لهذا، أجاب هيغل عن سؤال «من الذي يصنع الدستور؟»، لكن السؤال حسب هيغل خالٍ من المعنى؛ أي أن الدستور لم يكن وأصبح موجوداً لتوه بسبب أفراد معينين؛ «فالفكرة الشاملة لا علاقة لها بمثل هذا التجمع»([6]) بيد أن الدستور موجودٌ ببساطة، وفوق ما يُصنع، والحق أن دستور كل أمّةٍ ينبني على شخصيتها ودرجة وعيها بذاتها؛ لأن الدستور ينتمي إلى الكلي لا إلى عرضية الآراء الفردية أو الجماعية.
[1] محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيغل. (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2008)، ص530.
[2] إ.ع.إ، المنهج الجدلي عند هيغل، دراسة لمنطق هيجل. بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2007، ص 233.
[3] هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ، العقل في التاريخ. ترجمة وتقديم إ.ع.إ. ( بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، 2007)، ص 189.
[4] هيغل، أصول فلسفة الحق. م. م. س. ص 537.
[5] المصدر نفسه، ص 537.
[6] المصدر نفسه، ص 538.
رابط المقال:
التعليقات