تقوم العلاقات بين الدول حسب هيغل على الاعتراف المتبادل، وفي هذا الصدد يُعرّف هيغل القانون الدولي (International law) بأنه صادر «من العلاقات بين الدول المستقلة ذاتياً، وهذا هو السبب في أن ما هو مطلق فيها يتخذ صورة ما ينبغي أن يكون، ما دام وجودها الفعلي يعتمد على إدارات مختلفة كل منها عبارة عن سيد.»([1]) والذي يفضي إلى احترام استقلالية بعضهم البعض، علاوة على هذا يمكن لدولة ما أن تتدخل في شؤون دولة أخرى بشرط موافقة أو دعوة الأخيرة إلى ذلك، في حين أن الدول التي لا صلة لها بالدول الأخرى تظل محاصرة داخل حدودها، وإن اتصفت بالشرعية.

وفي مشكلة التجافي بين الشعوب الدينية، يسأل هيغل: هل يمكن أن نلقب شعبا متدنياً في سلم الحضارة بالدولة؟ أجاب هيغل هنا من وجهة نظر دينية معتمدا على مثالين من الماضي (الشعوب الإسلامية، والشعب اليهودي) إذ يقول: «لقد كانت وجهة النظر الدينية...تتضمن تعارضاً على مستوى عال بين، شعب معين وبين جيرانه وهكذا ينبذ الهوية العامة المطلوبة في حالة الاعتراف»؛([2]) أي أن الدولة هي الحالة الوحيدة التي من شأنها أن تشبع حاجاتها الداخلية والخارجية، وتضمن الدخول في معاهدات مع الدول الأخرى على أساس الاعتماد المتبادل، وليس بناء على الإرادات التعسفية التي لا تعتمد النظر العقلاني في تنظيمها وتنظيم العلاقات بينها وبين الدول الأخرى.

أما من جهة إدارة العلاقات بين الدول، نجد أن هذه العلاقات تتخذ شكل عقود، تنبع من الإرادات التعسفية للدول، هذه العقود ذات المضمون الجزئي تجد إشباعاً في الدول المستقلة التي تعتمد على بنيتها الداخلية، وما يتخذ صفة الكلية في هذا الصدد هو القانون الدوليّ، لكن «هذا الشرط الكليّ لا يتجاوز حالة ما ينبغي أن يكون، أما ما يحدث فعلاً فهو أن العلاقات الدولية تسير طبقاً للمعاهدات وتتغير وفقاً لقطع هذه العلاقات.»([3])

ويعالج هيغل مشكلة تدبير المصالح بين الدول، عن طريق الوساطة بينهم، في هيئة حَكَم؛ ما دامت الكلمة الأخيرة لإراداتهم المستقلة. وعلى خلاف هذا الرأي، نجد موقف كانط الداعي إلى تأسيس «عصبة أمم» لتجنب الحرب، لكن «حلم السلام الدائم»، في نظر هيجل ليس إلاَّ حداً فحسب. كما أن هيجل لا يؤمن بإمكان قيام سلطة دولية فعَّالة ومؤثرة.»([4]) علاوة على هذا، يشير هيغل إلى أن فكرة كانط لا تخرج عن دائرة الإرادات الخاصة بالدول، لذا سيظل التناقض قائماً فيما بينها.

أما في مشكلة تدبير النزاع بين الدول، فإذا لم يصل الطرفان المتنازعان إلى حلّ لنزاعهما يُحسم النزاع بالحرب، لكن هيغل لا ينسى أن للحرب أضرارها، هذه الأضرار قد تنحل بسببها المعاهدة القائمة بين الدولتين؛ لأن الدولة المستقلة ستحمي مصالحها الخاصة لأقصى حد ممكنٍ. ويضيف هيغل أن الدولة الفردية المستقرة دائما ما تسعى إلى ما وراء حدودها، بقدر تعرضها لتلقي الضربات، و«الدول في علاقاتها بعضها ببعض فهي جزئية وكل منها ينشد مصالحه الخاصة. والجزئي هو بالضرورة الفصل Differentia (بالمعنى المنطقي للفظ) بين الأنواع.»([5]) ومنه جعل هيغل القانون الأعلى هو صالح الدول الخاص، وبسبب هذا التنوع في المصالح الجزئية للدول، تصل هذه الأخيرة مرحلة الاعتراف.

وفي إطار حديثه عن علاقة الأخلاق بالسياسة، وإمكانية خضوع أحدهما للآخر كما حدث في مراحل مختلفة من التاريخ البشري، يُميز هيغل بين مصلحة الدولة (الجوهر الأخلاقي)، ومصلحة الفرد، إذ إن الدولة لها وجود عيني؛ وهذا الوجود العيني هو عين أفعالها وسلوكها، وليس أوامر أخلاقية كما يقول الأفراد، لهذا فجَعْل العلاقة قائمة على التضارب بين الفرد والدولة، هو نتيجة «أفكار سطحية عن الأخلاق Morality وعن طبيعة الدولة، وعلاقتها بجهة النظر الأخلاقية.»([6]) وهذا الفهم الذي توصل له هيغل ضروري لتجنب التعارض الذي من شأنه أن يفسر الأخلاق أو السياسة اعتمادا على آراء خاصة أو مزاعم فردية، كما من شأنه أن ينقل علاقة الأخلاق بالسياسة من دائرة الغموض إلى دائرة الوضوح في ضوء العقلانية.

ويختم هيغل كلامه في هذا الجزء، بحديثه عن أخلاقيات الحرب؛ إذ يرى أن الحرب هي حالة غير مستمرة، لأن في حالة الحرب تظل العلاقة بين الدول قائمة، بحيث تتجسد في تبادل الأسرى...، وهذا ما سماه هيغل «بأخلاق الأمم» مؤكداً على ضرورة «صون احتمال السلام (وهكذا، مثلاً، ينبغي احترام المبعوثين أو الممثلين للدولة) بصفة عامة ينبغي ألا تشن الحرب ضد المؤسسات الداخلية، أو ضد سلامة الأسرة الحياة الخاصة، أو ضد الأشخاص وقدراتهم الخاصة».([7])

وبالجملة، فإن العلاقات بين الدول تتصف بالجزئية، هذا ما يترتب عنه عدم استقرار في العلاقات بينها، «ولئن لم يوجد حاكم يفصل في الواقع بين الدول، فإن هناك حَكَماً غير محسوس هو التاريخ العالميّ، تاريخ روح العالم».([8])

من خلال عرضنا لمفهوم الدولة عند هيغل، خلصنا إلى أن الدولة تعتمد في بنائها على العقلانية والحرية، وتتجسد عبر القوانين والمبادئ؛ أي عبر دستور ينتمي إلى الكليّ لا إلى عرضية الآراء النسبية، وهذا الكليّ يتجلى كذلك في سلطات الدستور، فسلطة الملك تمثل ذاتية السيادة والوجه الفردي للدولة، وهي سلطة مستمدة من الوراثة، لكن ذلك لا يعني أن يكون الحاكم مستبداً برأيه الخاص، وإنما يجسد العنصر الذاتي في الفكرة الشاملة، أما العنصر الموضوعي فيتجلى في مؤسسات الدولة، وهي المندرجة في السلطة التنفيذية والتشريعية، وهي سلط تكمل بعضها البعض، وتسمح بتناسق الدولة وقوة نظامها، وهو ما يجعلها قادرة على تحقيق اتصال رفيع مع الدول الأخرى، باعتبارها دولة عضوية ذات سيادة فردية ومستقلة، ويحسم في علاقة الدولة بالدول الأخرى الملك بوصفه صاحب القرار النهائي، كما يصل بينها عن طريق عقود ومعاهدات جزئية، أما إذا لم يصل كل طرف إلى حل فيحسم الأمر بالحرب، لكنها حرب تحافظ على قدر معقول من الأخلاقيات.

[1] هيغل، أصول فلسفة الحق. م.م.س 594.

[2] المصدر نفسه، ص 595.

[3] المصدر نفسه، ص 596.

[4]  ولتر ستيس، فلسفة الروح، المجلد الثاني من فلسفة هيغل. م. م. س. ص 122.

[5] المصدر نفسه، ص 122-123.

[6] هيغل، أصول فلسفة الحق. م. م. س. ص 598.

[7] المصدر نفسه، ص 598.

[8] عبد الرحمان بدوي، فلسفة القانون والسياسة عند هيغل. م. م. س. ص 226.

رابط المقال: