تحتوي كتابات هيغل على العديد من المعاني والتعريفات في مفهوم الدولة ومضمونها، ومن أدقّ وأبلغَ تعريف في الوعي الذاتي عند هيغل للدولة، من قوله: إن «الدولة هي الروح وقد تموضعت»؛([1]) إذ أنها توجد على نحو مباشر في العرف والقانون، وعلى نحو غير مباشر في الوعي الذاتي للفرد. والحال أن أبرز ما يميز الدولة عند هيغل أنها عقليةٌ بمجرد أن تصل إلى حالة الوعي، كما أن غايتها الوحدة الجوهرية؛ أي وحدة الكلي والفردي؛ إذ «الغاية النهائية لها حق أعلى أو أسمى من الفرد(...)لأن واجب الفرد الأسمى هو أن يكون عضواً في الدولة.»([2]) ويتجلى مضمون الدولة في الحرية الذاتية، والحرية الموضوعية. هنا، سوف ينتقد هيغل المفكر السويسري جان جاك روسو (Rousseau) (1712 - 1778)، الذي نَظَرَ إلى الإرادة بوصفها إرادة فردية، «ولم ينظر إلى الإرادة الكلية على أنها العنصر العقليّ المطلق في الإرادة، بل فقط على أنها إرادةٌ «عامّة» صادرةٌ عن هذه الإرادة الفردية.»([3]) نتج عن هذا جعل اتحاد الأفراد قائماً على آرائهم العرضية، وإراداتهم التعسفية، وفي هذا الصدد يقول هيغل إنه: «عندما انعقدت السيادة لهذه النتائج المجردة وكانت لها السلطة استطاعت لأول مرة في التاريخ البشري أن تقدم المشهد الهائل لتقويض دولةٍ عظيمةٍ موجودةٍ بالفعل.»([4]) هكذا يتبين مع هيغل أن ركائز الدولة هي العقلانية والحرية.

وتتمثل صورة الدولة، في فكر هيغل، في أنها «تحدد ذاتها عن طريق القوانين والمبادئ التي هي أفكار ومن ثَمَّ كليةً؛ وهذه الفكرة هي الوجود الأزليّ على نحو مطلقٍ وضروريٍّ للروح».([5]) هذا القول سوف يتضح بالسلب، وهو ما تطرق إليه هيغل في حديثه عن السيد (Von Haller)، وقد وصف هيغل آراء ڨون هالر بأحادية الجانب، وسطحية المبادئ؛ إذ إن هذا الأخير جعل ماهية الدولة في ما هو عرضي (القوة، الترف...)، وليس في ما هو جوهري. الأمر الذي دفع هيغل إلى القول: «من المُسَلَم أن السيد ڨون هالر [Von Haller] من أعداء التشريعات القانونية، فالقوانين المدنية في رأيه من حيث المبدأ من ناحية «لا ضرورة لها لأنها تنبثق من تلقاء ذاتها من قوانين الطبيعة...»،([6]) بهذه المقارنة يتضح أن اعتماد الدولة على القوانين أولى من أي مصالح عرضية.

كما تتجسد الدولة في صورة قوانين وقواعد ومبادئ، لتصبح عينية؛ وهي كيان عقليّ من تجلياته أن الدولة هي السلطة التي تعلو كلاً من الأسرة والمجتمع المدني، ولا يتصف هذا العلو بالاستبداد أو التسلط، بل يعتمد على القوانين، وفي حديث هيغل عن فكرة «اعتماد القوانين» استحضر الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو Montesquieu (1755-1689)، الذي كان له فضل كبير في تفصيلها وتحليلها، كما أنه عالج في فلسفته الكل من خلال علاقته بالجزء، أما في حديثه عن موضوع الواجب والحق، فقد جعلهما هيغل متحدين، وهذا ما يقصده بقوله: «في الدولة بوصفها واقعاً أخلاقياً، وبوصفها النفاذ المتداخل بين الجوهر والجزئي، يكون التزامي لما هو جوهري [الواجب] تجسيدا في الوقت ذاته لحريتي الجزئية [الحق]».([7]) جعل هيغل من وحدة التصور هذه القوة الداخلية للدولة. في حين أن هذا الاتحاد يصبح اختلافا في المضمون؛ بسبب تمايز اللحظات في مسار التطور الداخلي للفكرة (الكلي، الجزئي، الفردي)، وتبيان هذا أن «في الأسرة يختلف مضمون واجبات الابن تجاه والده، عن مضمون حقوقه نحو نفسه، ومضمون حقوق عضو المجتمع المدني ليست هي نفسها مضمون واجباته نحو الأمير والحكومة»؛([8]) وهو عينه اختلاف المضمون بين الأنانية والغيرية، أي المصلحة الفردية والمصلحة العامة.

ميز هيغل الواجب المجرد عن الواجب العيني؛ فالأول يمقت المصلحة الجزئية، والثاني يجعل منها لحظة جوهرية؛ إذ يجب أن تتحول الشؤون العامة (الكليّ) إلى خاصة (المصالح الجزئية). يوضح هيغل هذا عندما يعتبر أن الفرد المنعزل يصير في «حالة خضوع» عندما ينظر إلى الواجب على نحوٍ مجّردٍ، وليس بوصفه إشباعاً لمنفعته في ضوء الكل.

وفي سياق تناوله لمسألة الحرية والضرورة، قال هيغل إن: «الروح ذات من المقام الأول، وكل ما هو ذات [الدولة] هو لا متناه بالمعنى الحقيقي للاتناهي».([9]) وعليه، أبرز هيغل أن ثمة دائرتين متناهيتين هما الأسرة، والمجتمع المدني، تنال الجماهير منهما حقها؛ لأنها مؤسسات تدعم الحرية العامة، وضمنيا الحرية الجزئية، هذا هو الدليل على وحدة الحرية والضرورة كما قال هيغل، وإثر ذلك «لم تعد علاقة الفرد بالدولة علاقة إقصاء، وإنما هي صارت علاقة اشتراك».([10]) ويحصل هذا في حالة وجود العقلانية في الدولة؛ مما يكسب مؤسساتها طابع الثقة، الأمر الذي سيؤدي إلى تكون المشاعر الوطنية، وفي هذا الصدد ميز هيغل الرأي الشخصي الذي يدعي الوطنية، عن العمل على استحقاق هذه الوطنية من خلال المساهمة في وظائف ومجالات الدولة.

[1] هيغل، أصول فلسفة الحق. ترجمة إ.ع.إ. (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996)، ص 498.

[2] المصدر نفسه، ص 497.

[3] المصدر نفسه، ص 500.

[4] المصدر نفسه، ص 500.

[5] المصدر نفسه، ص 498.

[6] المصدر نفسه، ص 504.

[7] المصدر نفسه، ص 508.

[8] المصدر نفسه، ص 507.

[9] يوسف سلامة، مفهوم السلب عند هيغل. (الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ط1، 2001)، ص 280.

[10] محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيغل. (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2008)، ص 308.

رابط المقال: