لكلّ إنسانٍ ما يبدّهه دون دليلٍ مسبق, وليس هذا العامل سيّئاً بكلّ تأكيد, وإلّا كنّا لنشكّ في وجودنا وأنّا نفكِّر. هذا ما قد نسمّيه معرفةً حدسيّة لا قدرة للاستدلال عليها, لأنّها بداية التفكير ابتداءً.

مع ذلك خطر ببالي كثرة تعارض حدس فردٍ مع آخر, وينبني على ذلك احتداماتٍ لا حدّ لها بين الناس, فما الحلّ؟

كثيراً ما أسمع كلمة "أحياناً" وأستاء منها, فلا تحديد فيها ويمكن أن تكون خدّاعة, فهل لنا أن نضع خطّاً يقول للحدس كفاك يقيناً من هنا؟

مررت في الشهرين المقبلين على كثير أفكارٍ, منها أنّي طرحت لنفسي التالي: ليس الحدس يقينيّاً دون عقلٍ إلّا إن كان لا اختيار لك غير الإيمان به, ولو لا عاملَ معلومٌ يفرّق بين حالتين فكلتاهما ممكنتان. وعنيت بذلك مثالاً أنّك لن تشكّ أنّك تشكّ أو أنّك تفكّر. لكنّي لم أرى ذلك مشبعاً, فيمكنك بإرادتك أن تشكّ في جلّ ما بعد ذلك مع عجز عقلك أن يوقن بشيءٍ.

كان ولا يزالُ لي ميلاً بعض الشيء نحو تأسيسية المعرفة حسب ما فهمت عنها, فالجذور أقوى من الفروع. وأدركتُ أنّ الحدس هو أساس العقل, فالعقل يرفض دائريّة الاستدلال, ولا مجال له بذلك أن يحتجَّ لنفسه. لكن أليس ذلك يعطي للتأسيسية مأزقاً؟ فإن كان أساس العقل أداةً بكلّ هذا التقلّب أليس على التأسيسي إذاً أن يرى الحقيقةَ متقلّبةً؟

بينما ظننت كلّ هذه الإشكالات كافيةً بمجرّد أن ساءلت الحدس, وجدت أنّ أساس مساءلتي حدسيٌّ مباشر, فكيف علمتُ أنّ الناس أناسٌ فعلاً وأنّ لهم وعيٌ تحتدم به نقاشاتِهم؟ دعاني ذلك أن أتراجع وأرى إن كان للاستشكال سبباً آخر, ورأيت أنّ سبباً آخر يعود لتقلّب حدس الفرد نيابةً عن العامّة.

وأخيراً, ما رضّخني للحدس ضدّ فردانيّة أفكاري ومعاقلتي إدراكي أنّ أيَّ تأسيسٍ معرفيٍّ يعود إلى تبعات إسقاط أدواته, وأعني بذلك أنَّ المؤسِّس يأبى أن ينكر شيئاً ثمَّ يرى من أين أتى ثمَّ يأخذ أصله كأداةٍ معرفيّة, والّذي هو أمرٌ حدسيٌّ صِرف! فلماذا أَوقنُ ابتداءً بالشيءِ دون تبريرٍ مسبق؟ بذلك خلاصةً لا أرى مجالاً لرسم خطٍّ إلّا بالعودة إلى الحدس, والّذي سيدفعني إلى مصادرةٍ بعد ألف مصادرة, فعليّ بناءً على ذلك أن أوقن بما هو أقوى وأكثر مباشرةً, والذي نسمّيه كمسلمين الفطرة, والله أعلم.