لعل من أبرز المعضلات التي تواجه التفكير العربي المعاصر، وتخترق وعينا الجمعي، الفهم الخاطئ والمغلوط لعدد من الأفكار والمفاهيم النظرية الأساسية (كالعلمانية والشيوعية... إلخ)، مما يقود إلى تشويهات لا حصر لها تجد تعبيراتها في كل من الممارسة العملية وأنماط الوعي السائدة.

فإذا أخذنا مفهوم العلمانية كمثال، غالبا ما يتم الربط بينها وبين الكفر والإلحاد، على نحو تلقائي ودون أي تبصر وتدقيق. والحال أن العلمانية، في معناها الأصلي، لا يمكن مماهاتها مع الإلحاد، لأنها في المقام الأول صفة تُطلق على الدولة ككيان اصطناعي مجرد، بينما الإلحاد هو موقف اعتقادي شخصي، لا يوصَف به إلا الأفراد. كما أن العلمانية تعني، ببساطة، أن الدولة التي تؤطرها قوانين وضعية، تقف على مسافة واحدة من الأديان والملل القائمة، وتترك للأفراد حرية ممارسة معتقداتهم وشعائرهم الدينية في مجالهم الخاص، لكن دون تحويلها إلى نظام إكراه اجتماعي، فكل شخص حر في اعتقاداته الدينية والروحية دون أن يلزم بها غيره، وهذا هو جوهر حرية الضمير والمعتقد.

وتأسيسا على ذلك، فإن العلمانية لا تعني، حكمًا، معاداة الدين واستئصاله، وإنما هي، كما ثبت تاريخيا (لا سيما في السياق الأوروبي)، قد تكون ضمانة للدين وشرطا لحفظ بقائه، من طريق الحيلولة دون توظيفه سياسيًا ولتمرير مصالح فئوية ضيقة لا علاقة لها بالأبعاد الروحية والأخلاقية السامية التي تنطوي عليها الأديان. ولهذا، نفهم مثلًا السر وراء تأييد بعض النخب الإسلامية في دولة مثل الهند للعلمانية، بما هي ضمانة لحمايتهم من اضطهاد الأكثرية الهندوسية.

وقل الشيء ذاته عن مفاهيم من قبيل الماركسية والشيوعية، التي تُقرن بشكل غير محسوب بالإلحاد والفسق والفجور. والواقع أن الشيوعية هي إيديولوجية اقتصادية وسياسية في المقام الأول، إذ تعني، في المنظور الماركسي (مع شيء من التبسيط مني لكون أن المجال هنا لا يتسع للتفصيل في مختلف أبعاد ومضامين تلك النظرية، ناهيك بنقدها وكشف مواطن الضعف فيها) الانتقال من المجتمع الرأسمالي، القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إلى المجتمع الشيوعي حيث الملكية الجماعية والمشاعة لوسائل الإنتاج، والذي ينعدم فيه الصراع الطبقي بسبب تفسخ مؤسسة الملكية (بكسر الميم)، وتنتفي فيه الحاجة إلى وجود الدولة.

قد يكون سوء الفهم الذي تتعرض له الماركسية مَرَده مقولة شهيرة منسوبة لكارل ماركس: "الدين أفيون الشعوب"، غير أن تلك العبارة تحتمل تأويلات عدة، ويصعب تأويلها حصرًا على أنها دعوة إلى الإلحاد والرذيلة. فما كان يقصده ماركس بقولته تلك أن الطبقة البرجوازية (الأثرياء المالكين لوسائل الإنتاج) تستخدم الدين كمخدر لتبرير أوضاع الفقر والتفاوت الطبقي، مما يسيء إلى الجوهر الأخلاقي للدين الذي يدعو إلى التراحم والتكافل والعدالة الاجتماعية. ولعل ما عناه ماركس في عبارته تلك نجد تمظهراته في مجتمعاتنا، حيث يجري تصوير أوضاع الفقر واللامساواة الطبقية على أنها قضاء وقدر، لا بوصفها ناجمة من الجشع والاستغلال الاقتصادي والسياسات غير الرشيدة، وبالتالي يحث ذلك الخطاب الانتهازي إلى التسليم بالوضع القائم، لأن انتقاد الظلم الطبقي والدعوة إلى معالجة الفقر يمثل اعتراضا على "المشيئة الإلهية".

على أن الإشكال الإبستمولوجي القائم لجهة التعامل الساذج مع المفاهيم، يُعزى أساسا، في نظري، إلى غياب التفكير العلمي والنقدي والموضوعي، واستشراء ذهنية القطيع التي تجنح إلى الانسياق وراء المُسَلمات والبديهيات دون إخضاعها لتمحيص فكري، مما يسائل أدوات نشر الوعي والمعرفة في وطننا العربي، من مثقفين وإعلام ومناهج تعليمية... إلخ، والتي تبدو قاصرة عن زحزحة أنماط الوعي التقليدي وإبداله بوعي نقدي يعيد للعقل مكانته واعتباره، وهذا لا يتنافى مع جوهر الدين الإسلامي الصحيح، الذي يدعو إلى التدبر وإعمال العقل والتبصر قبل إطلاق الأحكام، خلافًا للذهنية الفقهية التقليدية التي تتحمل قدرًا لا بأس به من المسؤولية عن تراث عصر الانحطاط الفكري والحضاري، الذي ما برحنا نتجرع تداعياته وخيباته.

للتواصل مع كاتب المقال: salaheddineyassine99@gmail.com