يعتبر "المعنى" نوع من أنواع "الأيديولوجيا". ويمكن تعريف الأيديولوجيا "بصورة تقريبية أنها نسق (له منطقه ودقته الخاصتين) من التمثلات (من صور وأساطير وأفكار وتصورات حسب الأحوال) يتمتع، داخل مجتمع ما، بوجود ودور تاريخيين". والسؤال الذي يطرح نفسه الآن – وهو أيضاً نقاش هذه الورقة - هو، من أين يوجد المعنى؟ سوف تتم الإجابة على هذا السؤال -بشكل مختصر – من خلال "الأيديولوجيا الألمانية" لكارل ماركس ‘Karl Marx’ وفريديريش انجليز ‘Friedrich Engels’. وتتلخص هذه الأيدلوجية في أنها تنتقد التقاليد الهيجلية ‘The Hegelian philosophy’ وفلاسفة ألمانيا المثاليون‘idealists’. وسبب هذا النقد، هو ادعاء ماركس أن تلك التقاليد لم تركز فقط إلا على الاهتمام بمفاهيم "الوعي" و"الأفكار المجردة" لإدراك الواقع الاجتماعي، ومن هنا جاء مصطلح "فلسفة المثاليون". ووفقا لهذا الرأي، فيمكننا إحداث تغييرات في الواقع الاجتماعي من خلال تغيير الطريقة التي ننظر بها لهذا الواقع. وقد نضجت هذه الفلسفة نتيجة للتحولات في أوروبا خلال القرن السادس عشر، حيث كان المجتمع نتاج مؤسستين رئيسيتين هما، مؤسسة الإقطاع ومؤسسة الكنيسة. وهذه الأخيرة كانت تدعي امتلاك المعنى المطلق والذي كان حينها ديني- مسيحي. والمبدأ الأساسي لهذا المعنى يكمن في فكرة، أن الاله هو مركز العالم ومصدر المعنى. وكل ذلك كان بهدف أن يتقبل الفرد مكانته الاجتماعية ولا يفكر في محاولة تغييرها، بل يقبلها كما هي عليه. لذلك، يقدم لنا ماركس تحليلاً مغايرا، يحث على التمرد على التقاليد السائدة لتغيير المجتمع عن طريق خلق أيدولوجيات محددة لهذا الهدف.

سوف تناقش هذه الورقة كيف أن المعنى موجود بالطبيعة، حسب لودفيج فيورباخ ‘Ludwig Feuerbach’. وتوضيح إميل دوركهايم ‘Emile Durkheim’ لهذا الادعاء، بضرب مثلاً بشجرة الكرز لتوضيح الفكرة. ثم سوف اناقش انتقادات كارل ماركس لهذه الادعاءات، حيث ادعى بدوره ان المعنى موجود داخل المعرفة الانسانية التاريخية، وليس بالطبيعة كما يدعى فيورباخ. وقد ضرب ماركس نفس المثال لشجرة الكرز لتوضيح ادعاءه. اما إمانويل كانط ‘Immanuel Kant’، فمن جهته ادعى ان المعنى غير موجود لا بالطبيعة ولا بالتاريخ، بل بالذهن. وذلك بحسب مفاهيم الثورة الكوبرنيكية ‘Copernican Revolution’ في الفلسفة، كما سوف نرى.

فيورباخ، المعنى موجود بالطبيعة

عند نقدنا لإشكالية وجود المعنى في الأيديلوجية الألمانية، نجد أننا ننتقد "التأملية المادية لفيورباخ"، وتناقضاتها الذاتية. والمسألة كلها تتلخص، كما قال ماركس، "في أن مفهوم فيورباخ للواقع بالنسبة "للإنسان" المادي العملي، أي بالنسبة للشيوعي، يكمن في تنوير العالم الواقعي، واثارة التمرد ضد الوضع القائم ومحاولة تغييره". وتكمن مشكلة فيورباخ في أنه يستخدم مصطلح "الأنسان" بدلاً من "البشر التاريخيين الفعليين". ومصطلح " الأنسان" في واقع الأمر يعني به فيورباخ، هو الإنسان "الألماني". فماركس هنا يوضح أن فيورباخ لا يرى البشر كحالة تاريخية تطورت جيلاً عن جيل، بل كطبيعة انسان ثابتة. لكن، من اين جاء المعنى حسب هذا المفهوم؟

يدعي فيورباخ أن فكرة الإله - أو مصدر المعنى المطلق - نشأت أساسا بسبب بُعد البشر عن الطبيعة ورفضهم لقوانينها. فالبشر قد حولوا طبيعتهم الذاتية المتحيزة إلى طبيعة حيادية مستقلة وخارجة عن أنفسهم، واعتبروها بذلك فكرة الإله أو مصدر المعنى. وقد قامت الكنيسة الدينية بهذا الدور في أوروبا خلال القرن التاسع عشر. ويضيف فيورباخ، أن سبب خلق هذا المعنى هو رغبة البشر في البحث عن الراحة والأمان وإيجاد "المعنى". وهكذا، كان الإحساس بالضياع، والشعور بالوحدة والفراغ، هو دافع المجتمع لإيجاد إله، لتتحد الكائنات مع بعضهما البعض على أساس الحب. والمشكلة الرئيسية التي تسببت بهذا الشعور، هو مشكلة البشر مع العالم المادي الذي يشعرهم أنهم "مشردون" ‘displaced’. فهم يتعاملون مع عالم مادي من حولهم، يتناقض مع الشعور العاطفي داخلهم، مما يحثهم على البحث عن مأوى بعيداً عن عدائية هذا العالم المادي. لكن من جهة أخرى، يدرك البشر أيضا أنه يمكن للحياة العاطفية أن تكون أيضا فوضوية، بينما هم يسعون للاستقرار والرضاء. وفي هذه الحالة، قد يصبح البحث عن المعنى أمر مرهق. لذلك، فقد سعى البشر إلى التعلق "بالأمل" بديلا عن المعنى الحقيقي. وكل ذلك، وفقا لفيورباخ، كانت هي الأسباب التي جعلت البشر تخلق الإله الذي يجيبهم ويحقق رغباتهم.

ويذهب إميل دوركهايم ‘Emile Durkheim’ إلى القول -فيما يتعلق بوجود أيدولوجيات للمجتمع - بأصالة المجتمع وعدم أصالة الفرد. ومعنى ذلك، هو أن " المجتمع عبارة عن تركيب حقيقي مكون من عدة أفراد وليس تركيباً اعتبارياً. وأن القضايا المركبة إما أن تكون اعتبارية أو حقيقية، والنمط الأول هو سلسلة الأشياء التي ترتبط مع بعضها عند شخصيتها الفردية، لا أن تندمج وتستحيل الى الشخصية العامة التي هي (الكل)". ويضيف أنه على سبيل المثال، نحن نطلق على مجموعة الأشجار المتراكمة في منطقة واحدة باسم "حديقة". فعلى الرغم من أن كل شجرة لها وجودها المستقل وشكلها التي تمتاز به، إلا أنه عندما تكون بين الأشجار المجتمعة مع بعضها تؤلف حديقة من الأشجار. لذلك، لو لم تكن هذه الأشجار الفردية موجودة ومجتمعة معا لما وجدت الحديقة. فالشجرة يمكن أن تكون موجودة بمفردها كشجرة خارج نطاق الحديقة. وللتوضيح أكثر، إذا أخذنا شجرة الكرز في هذه الحديقة كمثال، تبقى شجرة "كرز" حتى وإن زالت جميع الأشجار المجتمعة حولها، وهي مع سائر الأشجار لا تندمج مع بعضها، بل تجتمع فقط لتكون تركيباً اعتبارياً، وهو الحديقة.

كارل ماركس، المعنى موجود داخل المعرفة التاريخية

ينتقد كارل ماركس تصورات لودفيج فيورباخ، المذكورة آنفاً. ويدعي أن هذه التصورات خاصة بوجهة نظر العلوم الطبيعية، التي تتجاهل حقيقة أن أبسط اليقين الحسي لا ينتج إلا عن طريق التنمية الاجتماعية، والصناعة، والعلاقات التجارية. بالإضافة إلى أن هذه التصورات ترى العالم الحسي كشيء معطى ومسلم به منذ الأزل، متجاهلةً بذلك أن العالم في حالة تغير تاريخي دائم ومن دون انقطاع. وسبب هذا التغير هو الصناعة والانتاج التي يقوم بها المجتمع. وهذا يعني أن العالم الحسي هو نتاج تاريخي نتيجة لنشاط وفعالية مجموعة كاملة من الأجيال. فكل جيل يقوم على ارث الجيل السابق، ويحكم صناعته وتجارته، ويعدل نظامه الاجتماعي وفقاً لحاجاته المتغيرة.

وقد كان القرن التاسع عشر كان فترة مفصلية لتغير تصورات فيورباخ ودوركايم، وذلك بسبب صعود البرجوازية وانتشار الصناعة. فلقد أصبح الآن الانسان هو مركز العالم – وليس الإله كما كان في السابق. فانتقلنا بذلك من المعنى السماوي الى المعنى الأرضي. فأصبح من مسؤولية الفرد الآن أن ينتج معانيه الخاصة، على عكس الماضي حينما كان الانسان يحكي قصة من نتاج الجماعة وليس من نتاج الفرد أو ‘social individuality’. ولذلك، فقد أصبح الإنسان يتيماً، أي بمعنى لا يوجد له أب يعطيه المعنى الجاهز، كما كانت الكنيسة الدينية تعمل من قبل. بل يجب عليه ان يجتهد ليخلق معانيه بنفسه. وهذا ما كان يعنيه ماركس عندما قال في اقتباس له "أنه على النقيض التام من الفلسفة الألمانية التي تنحدر من السماء إلى الأرض، نحن هنا نرتفع من الأرض إلى الجنة".

وإذا أخذنا أيضا شجرة الكرز، كمثال على الأشجار المثمرة، والتي انتقلت الى أوروبا الغربية بفعل التجارة قبل عدة قرون. فعند محاولة فهمنا لمفهوم "اليقين الحسي" الذي يمارسه مجتمع محدد في حقبة محددة، فيمكننا فهمه من خلال التطور التاريخي لشجرة الكرز هذه. لأن شجرة الكرز قد تحولت من كونها موجودة بالطبيعة ولا دخل للإنسان في تكوينها، الى كونها حالة تاريخية تدخل الأنسان في تكوينها. وذلك بعد تسليع هذه الشجرة، ودخولها في الصناعة، والتبادل التجاري. لذلك، عندما نعمل الوعي على شيء ما، سيصبح ذلك الشيء تاريخي.

إيمانويل كانط، المعنى غير موجودة لا بالطبيعة ولا بالتاريخ، بل بالذهن

أما إمانويل كانط فقد أدعى أن هناك حاجة إلى المزج بين المعرفة الإنسانية التاريخية والعقل. وذلك عبر رؤية تسعى إلى فهم وتنظيم معطيات المعرفة الإنسانية التاريخية من جهة، وملأ بنيات العقل الفارغة بالعلوم الطبيعية من جهة أخرى. وعليه انتهى كانط إلى القول إن المعنى غير موجودة لا بالطبيعة ولا بالتاريخ، بل بالذهن. لأن القوة المنظمة لا يمكن أن تكون في الشيء الخارجي، بل تكمن في الذات. ولقد كانت تلك التصورات مبنية على مفاهيم نيكولا كوبرنيك ‘Nicolas Copernicus’ ويوهان كبلر ‘Johannes Kepler’ لنظرة الإنسان للعالم. فقد رفض هؤلاء الإثنين العقيدة السائدة القائلة بأن الإنسان والأرض هما مركز العالم الذي لا يتحرك. وأقروا بالمقابل الفرضية القائلة إن الإنسان والأرض يدوران حول الشمس. لذلك، وبالطريقة نفسها، قلب كانط الرأي السائد الذي قال إن المعنى يوجد عندما يتأثر الإنسان بالمحيط الخارجي، إلى القول بأن المحيط الخارجي، كما نعرفه، هو الذي يتشكل ويتكون عن طريق الذهن. وهذه النقلة المعرفية ‘epistemology’ هي اساس الثورة الكوبرنيكية في الفلسفة، كما أسماها كانط نفسه.