من الفلسفة اليونانية، مرحلة النشوء، ما قبل سقراط

أنكسمندريس

نشأ في ملطية أحد مدن أيونية كطاليس، عاش حسب التقديرات بين ٦١٠-٥٤٧ ق.م، خلف طاليس في ملطية كرائد للمدرسة الطبيعانية، وكعادة تلك المدرسة ففلسفتها تتمحور حول نقطتين: الأولى أصل العالم والسبب الأول الذي منه وإليه تعود المادة، وسبب الحركة المستمرة والتغير المستمر في العالم

السبب الأول: اللامتناهي

، أما في أصل العالم فقد لجأ إلى الطبيعة كأستاذه وعارضه في القول بأولية الماء، وتميز عن طاليس بنظرية شاملة لنشأة العالم، وأرجع أصل العالم لمبدأ أسماه "اللامتناهي" وهو مبدأ احتار فيه الفلاسفة وفي فهمه وسنعرض لعدة تفسيرات له، ولكن الغريب أن أرسطو لم يذكره في كتابه "ما وراء الطبيعة" وذكره في كتابه "الفيزياء" الكتاب الثالث الفقرة التالية في سياق حديثه عن كيف أنه لو هنالك "لا متناهي" فيجب أن يكون المبدأ الأول الذي به يتكون العالم كله وكيف أنه لا يصح أن يكون هنالك مبدأ أو سبب للامتناهي لأنه سيجعله متناهيًا، وأن اللامتناهي لا يوصف بغيره ولا كيف جاء إلى الوجود لأنه -كما قلنا- سيصبح متناهيًا، ويضع أرسطو اللامتناهي عند انكسمندريس ضمن المجموعة التي لا ترى سبب غير "اللامتناهي" للوجود.

It is clear then from these considerations that the inquiry concerns the physicist. Nor is it without reason that they all make it a principle or source. We cannot say that the infinite has no effect, and the only effectiveness which we can ascribe to it is that of a principle. Everything is either a source or derived from a source. But there cannot be a source of the infinite or limitless, for that would be a limit of it. Further, as it is a beginning, it is both uncreatable and indestructible. For there must be a point at which what has come to be reaches completion, and also a termination of all passing away. That is why, as we say, there is no principle of this, but it is this which is held to be the principle of other things, and to encompass all and to steer all, as those assert who do not recognize, alongside the infinite, other causes, such as Mind or Friendship. Further they identify it with the Divine, for it is 'deathless and imperishable' as Anaximander says, with the majority of the physicists.(1)

وعن طبيعة اللامتناهي عند أنكسمندريس لا يخبرنا بها مباشرة أرسطو، ولكن يمكن إستنتاجها من السياق حين يقول -نفس المصدر السابق- بعد عرضه رأي أفلاطون والفيثاغوريين الذين يرون اللامتناهي ك"جسم ما":

The physicists, on the other hand, all of them, always regard the infinite as an attribute of a substance which is different from it and belongs to the class of the so-called elements-water or air or what is intermediate between them[١]

ثم بعدها ببضعة فقرات يأتي الإقتباس الأول ومنه قد نفهم أن اللامتناهي عند أنكسمندريس "صفة" لمادة ما خصائصها أنها تختلف عنها -الصفة ليست المادة- وتنتنمي للعناصر الأولية التي يحددها الفيلسوف، مثل الماء عند طاليس مثلًا، فبالتالي نفهم الاقتباس الأول حينما يتحدث أرسطو عن مفهوم اللامتناهي فيقول أنه (١) يختلف عن المصدر الذي جاء منه كل شيئ (٢) هو لا يوصف إلا "كمبدأ" وصفة للمصدر أو العناصر الأولية الاي يتكون منها العالم.

إذن للتلخيص: اللامتناهي عن أنكسمندريس حسب كلام أرسطو هو (١) المبدأ الأول الوحيد لم ينتج عن شيئ (٢) مبدأ كل الأشياء يوجهها ويربطها (٣) لا يمكن وصفه إلا بنفسه (٤) مذهب أغلب الفيزيائيين

(٥) يختلف عن "المصدر" أو "العناصر الأولية التي جاء منها كل شيئ (٦) صفة للمصدر أو العنصر الأولي (٧) السبب الوحيد للوجود غير مصحوب بالعقل كما قال بعض الفلاسفة

وهذا كان السبب الأول عند أنكسمندريس أما عن العنصر الأول أو المصدر الذي منه الأشياء جميعًا فالبعض يرى أن اللامتناهي هو المصدر والعنصر الأول اعتمادًا على الإقتباس التالي في في حديثنا عن سبب التغير، وينفون ٥ و٦ مما وضعناهم بالأعلى، والبعض يثبت ما قلناه بالأعلى ويقول أن أنكسمندريس سكت عن المصدر الأول والبعض اقترح ما سنذكره في النهاية.

سبب التغير في العالم: 

وسبب التغير والحركة في العالم عند أنكسمندريس كما ذكر أرسطو في الفيزياء هو الانفصال والتمايز عن عن ما وصفه أرسطو ب "what is" ويقصد به اللامتناهي، فيصفه بالعديد والواحد ويشرحه بحديث أنكساغورس ومفهوم "الخليط" عنده وكيف تتكون الأشياء بالانفصال عنه، وهنا تكمن المشكلة فقد عامل أرسطو اللامتناهي ك"شيئ" لا صفة أو كذلك فهمه القراء، كما أدرج فلسفة أنكسمندريس مع فلسفة أنكساغورس عن "الخليط"، وهنا ينتهي الجزء المعروف وسنلجأ لنظرية أخرى عن فلسفة أنكسمندريس.

The physicists on the other hand have two modes of explanation.

The first set make the underlying body one either one of the three or something else which is denser than fire and rarer than air then generate everything else from this, and obtain multiplicity by condensation and rarefaction...The second set assert that the contrarieties are contained in the one and emerge from it by segregation, for example Anaximander and also all those who assert that 'what is' is one and many, like Empedocles and Anaxagoras; for they too produce other things from their mixture by segregation...[٢]

الطبيعة اللامتناهية

في ورقة بحثية نُشرت ٢٠١٤ [٣] تحدث الباحثون عن المبدأ الأول عند أنكسمندريس إعتمادًا -بشكل أساسي- على البحث اللغوي للكلمات المذكورة في كتابات أرسطو وغيره حيث وجدوا أن اللامتناهي دائمًا يقترن ب"الطبيعة" في تلك الكتابات، وهذا قد يحل مشكلة المصدر الذي "اللامتناهي" صفته، ثم يستفيضون في الحديث عن معنى الطبيعة عند الأيونيين وكيف أنها شغلت جزءًا كبيرًا من أبحاثهم وتطور معناها اللفظي، نذكره منه هنا ما يفيدنا في بحثنا والذي استنتجوه من جذر الكلمة اللغوي الهندو أوروبي واستقراء بعض النصوص وهو أن الطبيعة عند أنكسمندريس: ١- هي المولد الأولي لكل شيئ

٢- القدرة على النمو والظهور بكل معانيها

٣- النواتج من العملية السابقة

٤- توصف باللاتناهي، واللامتناهي وقتها هو محفز بدء عملية الخلق

وبهذه الطريقة جعلوا الكلمة المحورية في فلسفة أنكسمندريس هي "الطبيعة" بمعناها الإغريقي لا "اللامتناهي" وهو ما قد يشكل إشكالية كبيرة عند البعض، ومن ثم ألحقوا بها الصفات التي ألحقها أرسطو باللامتناهي فهي أزلية غير قابلة للتدمير، ويفسروا لما قال أنكسمندريس القليل عنها بالآتي

why Anaximander said so little about his ‘principle’, as the doxographers complained: we know boundless nature, which is the divine, when we scrutinize its workings, we may recognize it in everything that lives, moves, and exists, but considered in itself it is just the boundless power of nature which is hidden in everything that exists.

... نعرف الطبيعة اللامتناهية الإلهية حين ندرس أعمالها حولنا، قد نتعرف عليها في كل شيئ حي، يتحرك ويوجد، ولكن باعتبار ذاتها فإنها فقط قوى الطبيعة المختفية في كل موجود

وبهذا التفسير تقل مكانة أنكسمندريس بين الفلاسفة، فنظرته إن كانت مثل هذه فهي لا تختلف عن نظرة كل الأديان القديمة والبدائية منذ آلاف السنين عن الكون والروح المنبثة فيه، وفي المقابل هذه النظرة تفسر لنا قول طاليس في المقال السابق أن كل شيئ مليئ بالآلهة، فهذا كان معتقد اليونان القديم، ومعتقد الشرق كله بل العالم كله، ولكن أنكسمندريس يختلف عن الجميع في أنه لم يشخص تلك الطبيعة ولم يعبر عنها ب"الآلهة" بل مجرد قوى طبيعة ذات طابع إلهي، وهذا ما يجعله ضمن المدرسة الطبيعية رغم أنا لا نجد له ذكر لمبدأ كالماء أو غيره.

أما عن سبب التغير في الكون وكيفية عمله فترجع الورقة لمقولات سمبلسيوس وبلوتارخ، فتقول أن الخلق بدأ بفصل الأضداد الموجودة -كما قال أرسطو- في "جسم لا متناهي" بفعل حركة لا متناهية، ومنها الحار والبارد والرطب والجاف وغيرها من الأضداد، وجوهر الأضداد هو العدائية تجاه بعضها البعض، فيحاول كل ضد إلغاء الآخر باستمرار، وبالتالي تكون الطبيعة اللامتناهية قوى توليد لأنها أنتجت الأضداد وتدمير بفعل جوهر هذه الأضداد، ونتيجة لعمل الطبيعة اللامتناهية الأزلي تستقر الأرض استقرارًا نسبيًا فقط، والتالي قصة الخلق عند أنكسمندريس

الخلق

كانت الأضداد مختلطة في الطبيعة التي هي جوهر الوجود، ثم انفصلت بفعل الحركة اللامتناهية فكان أول ما انفصل الحار والبارد فتصاعد البخار بفعل الحرارة وكون الهواء حوله كرة نارية من الحار ما لبثت أن تمزقت وتخللها اسطوانات كونت الأجرام السماوية، والراسب كون البحر واليابس، وثبات الأرض لثبات بعدهت عن كل الأجرام، والحياة بدأت في الماء من الطين، وبدأت حياة بحرية وتطورت لليابس ونزعت عنها قشرها، وكذلك الإنسان كان لأبوين من الأسماك يومًا ما، والوجود في حركة مستمرة بين التوليد والتدمير، فهنالك عوالم لا تعد قد نشأت وستموت، والطبيعة اللامتناهية ثابتة لا تتغير وكل ذلك بفعل الحركة الدائبة التي هي إحدى صفاتها.

ويتحدث يوسف كرم في تاريخ الفلسلفة اليونانية فيستنكر في نهاية حديثه عن أنكسمندريس إستنكاره لإنكاره وضع مبادئ معينة للعالم كالماء عند طاليس، وهو وضع الأضداد في اللامتناهي، ويصل للنتيجة القائلة أنه "لا يصح أن يسمى -اللامتناهي" مبدأً بالمعنى الذي فهمه طاليس، أي ما تتكون من الأشياء، لكنه مبدأ باعتباره نقطة بداية التطور العام، وهذه نظرة علمية، فالمسألة الفلسفية ما تزال قائمة"

وكلام يوسف كرم لاحظ كيف لا يصح اللامتناهي كمصدر أو عنصر أولي منه تتكون الأشياء، وهو ما أقترح البعض كونه صفة للمصدر وقد وفق في ذلك، أما عن قوله عن علمية مبدأ اللامتناهي عند أنكسمندريس يتعارض مع ما ذكرناه بالأعلى عن الطبيعة اللامتناهية، فهو يرفعه لدرجات من التجريد لن يصل إليها فلاسفة اليونان إلا بعد بضعة قرون، والقول بالطبيعة اللامتناهية لا يجعله يختلف حقًا عن طاليس كثيرًا.


(1)

(٢)

(٣)