تنبيه: المقال عشوائي طويل لا يُنصح به لمرضى القلب ومن يتوهون بسهولة، وشكرًا.
البسطاء، المساكين، الفقراء، المستضعفين، العامة، المغلوبين، كلها صفات لمجموعة من البشر مثلت الأغلبية الطبقية لقرون طويلة من عمر النظم المجتمعية المتطورة عند البشر -ربما منذ اختراع الكتابة في الرافدين ومصر. وبحكم الأغلبية فلقد كان لهم أثر لا يستهان به في أي منظومة فكرية وضعت العالمية هدفًا لها، وإن كان أغلب حديثي اليوم عن الدين فهذا لا يجعلنا نقصي الأيدلوجيات الأخرى من ذلك التأثير، وبدايةً سنحاول استنتاج بعض الصفات العامة المميزة للبسطاء لنستنتج أثرها فيما بعد.
أولًا، البسطاء مستضعفون في الأرض مغلوبون على أمرهم، يغلب عليهم الخنوع والخضوع لذي القوة مهما كان، لا يثورون إلا جياعًا، اعتادوا حياة الفقر منذ آلاف السنين -منذ أقدم النصوص بين أيدينا، واعتادوا جلد الذات لإرضاء ملذات الأسياد، فنجد نصوصًا -قد ننشرها لاحقًا- للمصريين في عصر الاضمحلال الأول تنتقد البلاد وينتقد الناس بعضهم دون الإشارة لحاكمهم إلا ذلةً.
ثانيًا، البسطاء ماديون، دفعتهم ظروف حياتهم الشاقة إلى اللهث خلف لقمة العيش، فلا يملكون من ترف الفكر المجرد سوى قطوف من حكم الأجداد وما يسمعونه من الأسياد، فلا يقدرون على التجريد ولا يصبرون على التفلسف والتفكير، وأحب شيئ إلى قلوبهم أن ترسم لهم أو تصنع لهم ما تحاول شرحه، فإن حاولت استخدام الإشارة سألوك أن تبسط لهم بما يفهمونه، فتضطر أن تنحرف عن مقصدك إلى مقصد أبسط وربما أحط، وإن جئتهم بكتاب طالبوك بأكل ولباس، ومشرب ومركب، ونصرة على الأعداء، وشفاء للأمراض، فإذا شرحتم لهم كيف ينتصرون نفروا منكم وقالوا أنكم لمن الضالين، وأنهم على صراط مستقيم، لا يضرون ولا يضارون.
ثالثًا، أنهم يختلفون فيما بينهم وفق البيئة التي يسكنوها، فبسطاء الريف غير بسطاء المدن غير بسطاء البيادي، فالبدوي أغلظ من المدني والريفي، والمدني أكثر مطالبة بحقوقه من البدوي وهو بدوره أكثر من الريفي، فلا تستعجب من أن الثورات التي اشتعلت في عمر الخلافات الإسلامية قام بها العرب قبل الأعاجم، فطبيعة العرب أقرب للبدوية من غيرهم، وإن أختلطوا بأهل البلاد المفتوحة أختلطت طبائعهم وصاروا على شاكلتهم من اللين، فجاءهم بدو أغلظ منهم واستولوا على ملكهم وهم العثمانيون، فما إن استكانوا للدعة فاجأهم الإنسان الغربي بوحشية لا ترحم رغم أنه مدني قح، ولكنه فاق الأعراب وغيرهم في الغلظة والوحشية، ربما المدينة إن تحولت لغابة وكابوس حولت من فيها لوحوش، أو هذا ما يتضح لنا في عصرنا.
وكان لهذه الطبائع وغيرها بالغ الأثر على كل دين وأيدلوجية ظهرت على هذه الأرض، فتجد البساطة تنتصر على التعقيد، والتقليد على التجديد، ومن أول تجلياتها في الإسلام أن جاءت لغة القرآن سهلة سلسلة لا على شاكلة لغة الشعراء، تستعمل التصوير والبيان بكثرة تكاد تحير الأذهان، فلا نقطع دبر المشركين، وإن دعانا البعض لقطع يد السرقة، فهذه اللغة السلسة السهلة كانت أحد أهم أسباب انتشار هذا الدين، وأحد أقوى التضحيات التي قدمها، لأنها أول ما فتح الباب للإختلاف بين المؤمنين، ألله يد أم لا؟ أنسخت هذه الآية تلك أم نسخت تلك الآية هذه؟ ولو جاء بغير هذه الصياغة لما انتشر هذا الانتشار، لأن البسطاء هم الأغلبية.
ومن نتاج ذلك أن كثرت المعجزات والأساطير، حتى أصبحت عماد الدين، فلا نقتصر على كرامات الأولياء الصالحين، ولا على معجزات الواصلين، بل نزيد من معجزات الرسول جيلًا بعد جيل، وإن قيل:
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله او تاتينا اية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الايات لقوم يوقنون
واقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاءتهم اية ليؤمنن بها قل انما الايات عند الله وما يشعركم انها اذا جاءت لا يؤمنون
فيقول البعض أنه لم يأت بآية أصلًا، والبعض أن آيته الوحيدة القرآن وما يتلوه من آيات تحقيقًا لدعوةإبراهيم
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم اياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك انت العزيز الحكيم
كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم اياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
فاستخدم القرآن اللفظة عدة استخدامات، كدلالة على آيات القرآن نفسه وعلى معجزات الأنبياء وعلى حتى بعض الأحكام
يسالونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما ويسالونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الايات لعلكم تتفكرون
وتأبى سيكولوجية البسطاء إلا أن توحد المعاني، وتأبى إلا أن تخلق المعجزات، فتجد معجزات النبي تزيد معجزة فوق معجزة في علاقة طردية مع مرور الزمن على وفاته -صلي الله عليه وسلم، فتنتنقل من معجزات تعد بالعشرات أقصاها إكثار الطعام والماء في كتب السنة، إلى مجلدات تحوي آلاف المعجزات بد تصل لإحياء الموتى، فكيف تريد أن تقنع إنسانًا بسيطًا بنبي لم يحرك الجبال وينزل الصواعق؟ وما الفرق بينه وبين آلهته القديمة؟ فالبسيط عبد الأقوى لا الأكثر عقلانية.
لا يقبل البسيط مبدأ التشبيه إلا من باب المماثلة، فلن يقبل أن تحدثه عن الله إلا وجسده، فلا تستعجب أن يرى له يد وعينين وأذنين بل أن خلقت على صورته وهيئته وهو مماثل لك في كل شيئ، اللهم إلا أنه أرقى بشكل لا تتصوره، لا أدري ما هو ولكنك لا تتصوره فقط، ألم يكن من الأفضل ألا تصوره من الأساس؟ لا يمكن، وإن سألته عن إذا ما كان يقطع دبر المشركين طوليًا أم عرضيًا لاستغرب سؤالك.
البسيط يميل لتقديس الأشخاص، فلا تستعجب إذا وجدته يصلي على النبي أكثر من ذكره لله نفسه، ولا تستغرب أن يكون موضوع الجمعة يدور حول النبي أكثر من الإسلام ذاته، ولا أن يكون ذهنه مستحضر للرسول أكثر من استحضاره لله، فنفسية البسيط تحب الأبطال الخارقين، وتحب البشر الخارقين، فحدثه عن النبي إن أردت عاطفته ولا تحدثه عن الله إلا من باب تذكيره بإلهه، وكأن القرآن جاء ليتحدث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا عن الإسلام.
ليكتمل البطل الخارق فوجب أن يكون معصومًا عن أي خطأ بشري، وإن جاءت الأحاديث مؤكدة على أخطاء بشرية كحديث "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وموضوع التمر، أو استشاراته العسكرية لصحابته، ولكن أهنالك بطل به مثل تلك النقوص؟ وكأن الكمال في البشر معهود، فإن عبس وتولى أن جاءه الأعمى فهو كمال الفعل، ومن يعيب عليه ذلك هو كافر زنديق، أليس الله من عاتب رسوله على ذلك؟ ربما ذاكرتي بدأت تضعف.
ومن سيكولوجية البسيط قابليته للخضوع والخنوع، فالدين يامرك الا تثور على أسيادك، والخلافة في قريش، ولا ولاية لامرأة، فإن ثار واجهته بالدين وذكرته بالعاقبة فخشي وتراجع وعاش خاضعًا أبد الدهر.
والبسطاء يحبون من هم على شاكلتهم، فالأفضل أن يكون بطلهم لا يعلم القراءة ولا الكتابة، فيرون فيه المثل والقدوة والأمل أنهم أيضًا يقدرون، ويجب أن تكون قصته ملحمية درامية قدر الإمكان، وأصدقاء البطل لهم من قدسية البطل نصيب، فهم معصومون وأكثر من فهموا الدين، وكل من رأى البطل فقد أخذ من بركته، وأصبح معصوما عن الخطأ والذلل، وإن قاتلوا بعضهم البعض فكلهم على صواب.
والبسيط يميل للخرافة، فالأسهل عليه أن يؤمن بقوة سحرية يسميها عينًا أو حسدًا تربط الأرواح ببعضها وتعبث بها، وأن هنالك كائنات خفية تتربص به كل ليلة إذا ذهب للحمام أو انقطع النور عليه -وذلك كثير الحدوث في بلادنا- فمخاوفه الأصيلة والدفينة تتجلى في عيونه شياطين وجن ذوي قرون وحواف وذيول وبشرة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، فينسب لها مرضه وضرره، وإن احتلم دعاه جنًا عاشقًا، وإن أصابته سهامه هرع إلى الشيخ ليلعب دور البطل في مسرحية طرد الأرواح الشريرة، فيستكشف أحبالًا صوتية جديدة ويطير ويمشي كالأشباح، ويصبح شفافًا كالهواء.
البسطاء في نهاية الأمر بسطاء، وإن تفتقت عقولهم عن حكم وعلم لا حدود له، إلا أن العقل الجمعي له شطحاته الخاصة، فستجد لدى البسطاء الإيمان الحقيقي اليقيني، الذي لن تجده عند غيرهم، وتجد لديهم الإنسانية في أبرأ صورها وإن كانت وحشية فهي لا تضاهى بوحشية البشرية بعد هرمها، والبسيط مدفوع بفطرته، له أعذاره وحججه، له نظرته للحياة على الأغلب هي الصحيحة، هو لا يفكر ثم يفكر ثم يعود لما بدأ من عنده التفكير ويختصر الدور في أنه على فطرته ينشأ وعلى فطرته يموت، وهذا موضع نحسده عليه، فطوبى للبسطاء بيننا، هم السعداء في الدنيا وفي الآخرة، بينما كُتب على الباقي الشقاء دنيا، أما في الآخرة فأتركها لكم
التعليقات