أكبر جريمة يرتكبها الإنسان في حق نفسه هي كبت مشاعر الاستياء والرفض لما لا يرضاه... منذ أيام حكت لي أمي عن تصرف غريب من إحدى قريباتي المعروفة في عائلتنا بالطيبة والمسالمة والتسامح الذي يحسدها عليه الجميع... فالكل يجمع على أنها صاحبة قلب أبيض وأنها تتسامح مع من يسيء إليها مهما بلغت إساءته وتعود لتعامله بودها المعهود كأن شيئا لم يكن، وكنا جميعا نندهش لقدرتها الكبيرة على النسيان والغفران ... ما حكته لي أمي عنها أنها تعرضت لموقف عادي من إحدى قريباتها وأساءت فهمه وظنته إساءة .. فإذا بها تنفجر كالبركان الهادر في تلك المرأة التي أساءت فهم ما تقصده ... انفجرت وتفوهت في غضبها بكلمات تعني أنها تحملت منها الكثير وأنها أمضت سنوات طوال تعاني من انتقاد الجميع المستمر لها ولتصرفاتها، وأنها المضطهدة بينهم دوما .. ووو... صدمني هذا الموقف، لأنه لم يكن متوقعا منها أبدا ... والغريب أن معظم من سمع هذه القصة من العائلة ألقى باللوم عليها، فهي وللحق في غمرة غضبها العارم أساءت إلى المرأة التي تشاجرت معها... وصارت مخطئة في حقها في نظر الجميع، بل وأصبحت أيضا مدينة باعتذار لقريبتها هذه التي طالما احتملت منها السخافات!... هذا الموقف أشعرني كم يخطئ الإنسان في حق نفسه بتغاضيه عن المواقف التي يشعر فيها بالاستياء من كلمة أو تصرف أو سخرية ... فالغضب المكتوم يتراكم في صدره إلى أن تأتي لحظة الانفجار التي ستأتي لا محالة يوما ما كما في قصتنا هذه، وحتما ستأتي هذه اللحظة حاملة معها صفعات مدوية وكلمات جارحة تدمر ولا تصلح.

المشكلة الأخرى أن من اعتاد الصمت وابتلاع الإساءة مرة بعد مرة يجد في التمرد على هذا الوضع صعوبة مع مرور الوقت ويصير معتادا عليه مستسلما له؛ لأنه يحسب حساب رد فعل الآخرين الذين وضعوه في قالب الإنسان الطيب الودود المتسامح .. يحمل هم اندهاشهم وتعليقاتهم .. ما الذي دعاه للرد هذه المرة؟... أنت تقول هذا؟... أخيرا نطقت...!! .. الأمر الآخر أن الإنسان أحيانا يكون في داخله جنوح إلى الافتراس- إن جاز التعبير- يدفعه للتمادي في العدوان على من لا يملك رد عدوانه!.. ولتحرير هذه المسألة يجب أن يضع الإنسان أمرا هاما في اعتباره وهو أن رفض الإساءة والتعبير عن هذا الرفض لا يتنافى أبدا مع فضيلة كظم الغيظ... فكظم الغيظ يكون لمن هو قادر على إنفاذه، أما العاجز عن التنفيس عن غضبه وتبرمه فهو ليس كاظما للغيظ ولكنه ظالم لنفسه لأنه يعرضها لهذا الألم ولا يدفعه عنها...التسامح الحقيقي هو ما يكون اختياريا لا اضطراريا.